شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب بنيان المسجد

          ░62▒ بَابُ: بُنْيَانِ المَسْجِدِ.
          وَقَالَ(1) أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ(2): كَانَ سَقْفُ المَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ. فأَمَرَ(3) عُمَرُ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ(4)، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاس مِنَ المَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ(5) النَّاس.
          وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثمَّ لَا(6) يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا. وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا، كَمَا زَخْرَفَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى.
          فيهِ: ابنُ عُمَرَ: (أَنَّ المَسْجِدَ كَانَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الجَرِيدُ(7)، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ زيادةً، وَبَنَاهُ على بُنْيَانِهِ(8) فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم بِاللَّبِنِ وَالجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَبَنَى جِدَارَهُ بِالحِجَارَةِ المَنْقُوشَةِ وَالقَصَّةِ(9)، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ). [خ¦446]
          قالَ المُؤَلِّفُ: جاءت الآثار عَنِ النَّبيِّ صلعم، وعنِ السَّلف الصَّالح بكراهية تشييد المساجد وتزيينها، وروى حَبِيْبُ بنُ الشَّهِيْدِ عنِ الحَسَنِ قالَ: لما بُنِيَ المَسْجِدُ قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، كيفَ نبنِيهِ؟ قالَ: ((ليسَ(10) رَغْبَةً عَنْ أَخِي مُوسَى، عَرِيْشٌ كَعَرِيْشِ مُوسَى))، وروى سُفْيَانُ عن(11) أبي فَزَارَةَ عن يَزِيْدَ بنِ الأَصَمِّ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: ((مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيْدِ المَسَاجِدَ)). وقالَ أُبَيٌّ(12): إذا زَوَّقتم مساجدكم وحلَّيتم مصاحفكم، فالدَّمار عليكم. وقال ابنُ عبَّاسٍ: / أُمِرْنَا أَنْ نبنيَ المساجدَ جمًّا(13) والمدائنَ شرفًا. وقالَ مجاهدٌ(14): نُهِينا أَنْ نُصَلِّي في مسجدٍ مُشرِفٍ. وهذه الآثار مع ما ذكر البخاريُّ في هذا الباب تدلُّ أنَّ السُّنَّة في بنيانِ المساجد: القَصْدُ، وترك الغُلُوِّ في تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنائها؛ ألَا ترى أنَّ عُمَرَ قال للَّذي(15) أمرَه ببناء المسجد: ((أَكِنَّ النَّاس مِنَ المطرِ، وإيَّاكَ أَنْ تحمِّر أو تصفِّر فتَفْتِنَ النَّاسَ))، ويمكن أن يفهم هذا عُمَرُ ☺ مِن ردِّ النَّبيِّ صلعم الخَمِيْصَةَ إلى أبي جَهْمٍ حين نظر إلى أعلامها في الصَّلاة، وقال: ((أَخَافُ أَنْ تَفْتِنَني)). وكان عُمَرُ ☺ قد فتح الله الدُّنيا في أيَّامِه ومَكَّنَه مِن المال، فلم يغيِّر المسجدَ عن بنيانِهِ(16) الَّذي كان عليه في عهد النَّبيِّ صلعم ثمَّ جاء الأمر إلى(17) عُثْمَانَ، والمال في زمانِهِ أكثر، فلم يزدِ أنْ جعل في(18) مكان اللَّبِنِ حجارةً وقَصَّةً، وسقفَهُ بالسَّاجِ مكان الجَرِيْدِ، فلم يُقصِّر هو وعُمَرُ(19) عن البلوغ في تشييدِهِ إلى أبلغ(20) الغايات إلَّا عن عِلْمٍ منهما(21) عَنِ النَّبيِّ صلعم بكراهة ذلك، وليُقْتَدَى بهما في الأخذ مِن الدُّنيا بالقصد والكفاية والزُّهد في معالي أمورها وإيثار البُلْغَة منها. روى بُرْدٌ أبو العلاءِ(22) عَنِ القَاسِمِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ قَالَ: جَمَعَتِ الأنصار مالًا، فقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ابنِ بهذا(23) المَسْجِدَ فقَالَ: ((إذًا يُعْجِبُ ذَلِكَ المُنَافِقِيْنَ))، فدلَّ هذا الحديث أنَّ المؤمنين لا ينبغي أنْ يعجبهم ذلك.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] قوله: ((الخُدْرِي)) ليس في (م).
[3] في المطبوع و(م): ((وأمر)).
[4] في (م): ((مسجد)).
[5] في (ص): ((فيفتن)).
[6] قوله: ((لا)) ليس في (م).
[7] في (م): ((بالجريد)).
[8] في (م): ((بنائه)).
[9] في (ز) حاشية: ((القَصَّة بالفتح: الجصة. المغرب)).
[10] زاد في (م) و(ص): ((لي)).
[11] في (ص): ((ابن)).
[12] في (م): ((قال أُبَيُّ بن كعب)).
[13] في المطبوع و(م): ((حمًا))، و في حاشية (ز): ((أي لا شُرَف لها، ذكره في المُغرب)).
[14] زاد في (م): ((عن ابن عمر)).
[15] في (م): ((ألا ترى قول عمر ☺ للَّذي)).
[16] في (م): ((بنائه)).
[17] قوله: ((الأمر إلى)) ليس في (م).
[18] قوله: ((في)) ليس في (م).
[19] زاد في (م): ((☻)).
[20] في (م): ((أبعد)).
[21] في (م): ((عندهما)).
[22] في (م): ((وروى بُرْدُ بن العلي)).
[23] في (م): ((هذا)).