شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في القبلة

          ░32▒ بَابُ: مَا جَاءَ فِي القِبْلَةِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الإعَادَةَ على مَنْ سَهَا، وصَلَّى(1) إلى غَيْرِ القِبْلَةِ.
          وَقَدْ سَلَّمَ النَّبيُّ(2) صلعم فِي رَكْعَتَيِ الظُّهْرِ(3)، وَأَقْبَلَ على النَّاسِ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ.
          فيهِ: أَنَسٌ قَالَ(4): قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: (وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى(5)}[البقرة:125]الآيَةُ). [خ¦402]
          وفيهِ: ابنُ عُمَرَ: (بيَنْا النَّاسُ بِقُبَاء في صَلاَةِ(6) الصُّبْحِ إِذ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ(7) اللَّيلةَ(8) قُرآَنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنَّ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهْم إلى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إلى الكَعْبَةِ). [خ¦403]
          وفيهِ: ابنُ مَسْعُودٍ: (أنَّ النَّبيَّ(9) صلعم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقَالُوا: أَزِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ(10): وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ). [خ¦404]
          اختلف العلماء فيمن اجتهد في القِبْلَةِ فاستدبرها أو شرَّق أو غرَّب، فقال أبو حنيفةَ وأصحابُه، والثَّوْرِيُّ: لا يعيد؛ وهو قول عَطَاءٍ والشَّعْبِيِّ وسَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ والنَّخَعِيِّ، وقال النَّخَعِيُّ: إن كان قد صَلَّى بعض صلاته لغير القِبْلَةِ، ثمَّ عرف(11) ذلك في الصَّلاة فاستقبل القِبْلَةَ ببقية صلاته، فإنَّما(12) يحتسب بما كان صَلَّى كما فعل(13) أصحاب النَّبيِّ صلعم بقُبَاءٍ، وهو قول الثَّوْرِيِّ، وقال مالكٌ: مَن اجتهد في القِبْلَةِ فأخطأ فإنَّه يُعيد في الوقت استحبابًا، وهو قول الحَسَنِ(14) والزُّهْرِيِّ، وقال الشَّافعيُّ: إن فرغ مِن صلاته ثمَّ بان له أنَّه صَلَّى إلى المغرب استأنف الصَّلاة، وإن لم يَبِنْ له ذلك إلَّا باجتهاده(15) فلا إعادة عليه، والذي ذهب إليه البخاريُّ في هذا الباب قول مَن قال: لا يعيد.
          قالَ ابنُ القَصَّارِ: لأنَّ المجتهد في القِبْلَةِ إنَّما أُمِرَ(16) بالطَّلب ولم يكلَّف الإصابة، وإنَّما أَمر الله تعالى بإصابة عين القِبْلَةِ مَن نظر إليها، وأمَّا مَن غاب عنها فلا سبيل إلى علم حقيقتها؛ لأنَّه إنَّما يعلم القِبْلَةَ بغلبة الظَّنِّ مِن مهبِّ الرِّياح ومسير النُّجوم، وإذا كان كذلك فإنَّما يرجع مِن اجتهادٍ إلى اجتهادٍ ولا(17) يرتفع حُكْمُ الاجتهاد الأوَّل؛ كالحاكم يحكم باجتهاده، ثمَّ تبيَّن(18) له اجتهادٌ آخرُ فلا يجوز له فسخ الأوَّل، وليس للشَّافعيِّ أنْ يقول: إنَّ مستدبر القِبْلَةِ قد رجع مِن اجتهاده(19) إلى يقينٍ؛ لأنَّه لا يتيقَّن باستقباله نفس القِبْلَةِ في هذه الجهة، وإنَّما يغلب ذلك على ظنِّه ويُبيِّن ذلك الإجماع على جواز صلاة أهل الآفاق ومعلومٌ أنَّ كلَّ واحدٍ منهم غير محاذٍ للكعبة، وإنَّما يحصل ذلك للأقلِّ منهم، وقد جازت صلاتهم لوقوع(20) ذلك بالاجتهاد، والدَّليل على ذلك مِن حديث أهل قُبَاء أنَّهم صَلَّوا إلى غير القِبْلَةِ بعض الصَّلاة ثمَّ لم يُؤمروا بالإعادة؛ لأنَّهم لم يمكنهم الوصول إلى العلم بالجهة الَّتي كانوا مأمورين بالصَّلاة إليها، وإنَّما صَلَّوا إلى قِبْلَةِ مفترضةٍ عليهم كما المجتهد(21) مُصَلٍّ عند نفسه إلى القِبْلَةِ.
          وقال المُهَلَّبُ: وجه احتجاج البخاريِّ بحديث ابنِ عُمَرَ في هذا الباب هو انحرافهم إلى القِبْلَةِ الَّتي فُرِضَتْ(22) وهم في انحرافهم مُصَلُّون إلى غير القِبْلَةِ، ولم يُؤمروا بالإعادة بل بنوا على ما كانوا صَلَّوا في حال الانحراف وقبله، وكذلك(23) المجتهد في القِبْلَةِ لا يلزمُه الإعادة.
          وقد أشار البخاريُّ في ترجمته إلى هذا الاستدلال مِن حديث ابن مَسْعُودٍ فقال: وقد سَلَّمَ النَّبيُّ صلعم في ركعتي الظُّهر وأقبل على النَّاس بوجهِه(24)، وذلك أنَّ انصرافه وإقباله على النَّاس(25) بوجهه بعد سلامه _كان وهو عند نفسه في غير صلاةٍ_ فلمَّا بنى على صلاته بان أنَّه(26) كان في وقت استدبار القِبْلَةِ في حُكْمِ المُصَلَّي؛ لأنَّه لو خرج مِن(27) الصَّلاة لم يجز له أن يبني على ما مضى منها عند أهل الحجاز، فوجب بهذا أنَّ من أخطأ القِبْلَةَ أنَّه لا يعيد.
          وقال الطَّحَاوِيُّ: في انحراف أهل قُبَاءٍ إلى مكَّة(28) وهم في إحرام الصَّلاة الَّتي دخلوا فيها بالتَّوجه إلى بيت المقدس دليلٌ أنَّه مَن لم يعلم بفرض الله ولم تبلغه الدَّعوة إليه(29)، ولم يمكنْه استعلام ذلك من غيره، فالفرض في ذلك غير / لازم له، وأنَّ الحُجَّة فيه(30) غير قائمةٍ عليه، وإنَّما يجب عليه الفرض حين يعلمه وتقوم عليه الحُجَّة حين يمكنه استعماله؛ ولهذا دعا رَسُولُ اللهِ صلعم المشركين قبل أن يقاتلهم إلى الإسلام وبَيَّنَ لهم ذلك، ثمَّ ترك ذلك في آخرين سواهم مِن بني المُصْطَلِقِ وغيرهم، فقاتلهم وهم غادون على الماء؛ لأنَّ الدَّعوة قد كانت بلغتهم.
          فإن قال قائلٌ: قد كان فرض استقبال الكعبة في الصَّلاة وجب على أهل قُبَاءٍ قبل دُخُولهم في الصَّلاة؛ لأنَّ الآية الَّتي أَمر بذلك فيها أُنزلت(31) ليلًا، وإنَّما انحرفوا إلى الكعبة في الصَّلاة الَّتي عَلِمُوا بنزول الآية فيها وقد(32) لحقهم الفرض قبل دخولهم في الصَّلاة، وإنَّما عُذِرُوا في صلاتهم إلى غير القِبْلَةِ بالجهل منهم بها، قيل له: وكيف يكون لله تعالى فرضٌ على مَن لم يعلم بفرضه عليه؟! لو كان(33) كذلك للحقتْ فرائضُه المجانين الَّذين لا علم معهم، فلما كان المجانين بارتفاع العلم عنهم غير داخلين في الفرض، كذلك كان(34) كلُّ مَن لم يعلم بالفرض غير واجبٍ عليه الفرض.
          فإن قال: ما تقولون في الرَّجُل يُسْلِمُ في دار الحرب أوْ(35) دار الإسلام، يمرُّ(36) عليه شهر رمضان لم(37) يصمه، وتمرُّ عليه صلواتٌ ولم يُصَلِّها، ولم يعلم أنَّ الله سبحانه فَرَضَ شيئًا مِن ذلك على المسلمين، ثمَّ عَلِمَ بعد ذلك بأنَّ هذا قد كان فرضًا مِن الله تعالى على المسلمين؟ قيل له: للعلماء في هذا قولان: أحدهما: أنَّه إن كان في دار الحرب حيث لا يجد مَنْ يَسْتَعْلِمُ ذلك منه أنَّه لا يجب عليه قضاء شيءٍ مما مرَّ عليه مِن الفرائض، وإن كان في دار الإسلام أو في دار الحرب بحضرة مَنْ يمكنُه استعلام ذلك منه مِن المسلمين أنَّه يجب عليه قضاء ما مرَّ عليه مِن فرض الصَّلاة والصَّوم؛ لأنَّه قد كان يلزمه استعلام ذلك ممن(38) بحضرته مِن المسلمين، وهذا قول أبي حنيفةَ.
          والقول الآخر: أنَّه يقضي ما مرَّ عليه مِن الصَّلوات والصِّيام ويستوي في ذلك مروره عليه في دار الحرب أو(39) دار الإسلام هذا قول أبي يُوسُفَ، قالَ المُؤَلِّفُ: وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ.
          قال الطَّحَاوِيُّ: القول(40) الأوُّل أَوْلى وليس على أهل قُبَاءٍ مِن هذا شيءٌ؛ لأنَّهم كانوا على حقائق فرض قد كان لله ╡ عليهم، ولم يكن عليهم السُّؤال والاستعلام(41) عن زواله عنهم ولا عن حدوث فرضٍ غيره عليهم، فلما لم يكن ذلك عليهم سقط عنهم الفرض الحادث الَّذي لم يعلموا به، وليس كذلك مَن سواهم ممن عليه السُّؤال والاستعلام عن فرائض الله ╡، وفي(42) حديث ابن عُمَرَ: أنَّ أفعال النَّبيِّ صلعم لازمةٌ كأقواله حتَّى يأتي دليل الخُصُوص، وفيه: أنَّه يجوز أن يفتح مَن ليس في الصَّلاة على مَن في الصَّلاة إذا عدم المُصَلِّي اليقين؛ لأنَّ الَّذي أخبرهم وهم في الصَّلاة بصلاة النَّبيِّ صلعم إلى الكعبة كان حاضرًا واقتدى(43) بقوله، وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به؛ لأنَّ الصَّحابة قد استعملوه وقضوا به وتركوا قِبْلَتَهم بخبر الواحد، ولم ينكر ذلك رَسُولُ الله صلعم.


[1] في المطبوع و(م): ((فصلَّى)).
[2] في (ص): ((نبي الله)).
[3] في (م): ((وقد سلَّم النَّبيُّ صلعم من الظُّهر)).
[4] قوله: ((قال)) ليس في (م).
[5] قوله: ((وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)) ليس في (م). قوله: ((مصلى)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((صلاة)) ليس في (م).
[7] أشار في (م) إلى نسخة: ((في)).
[8] في (م): ((القبلة)).
[9] في (ص): ((نبي الله)).
[10] في (م): ((فقال)).
[11] زاد في (م): ((بعد)).
[12] في المطبوع و(م) و(ص): ((فإنَّه)).
[13] في (م): ((صنع)).
[14] زاد في (م): ((البصري)).
[15] في (م): ((بالاجتهاد)).
[16] في (م): ((أمره)).
[17] في (م): ((فلا)).
[18] في (م): ((يتبيَّن)).
[19] في (م) و(ص): ((اجتهاد)).
[20] في (م): ((لو فرغ)).
[21] في (م): ((كالمجتهد)).
[22] في المطبوع و(ص): ((افترضت))، وزاد في (م): ((عليهم)).
[23] في (م): ((فكذلك)).
[24] زاد في (م) و(ص): ((ثمَّ أتمَّ ما بقي)).
[25] قوله: ((بوجهه، وذلك أنَّ انصرافه وإقباله على النَّاس)) سقط من الأصل (ز).
[26] في المطبوع: ((صلاته بأنَّه)).
[27] في (م): ((عن)).
[28] في المطبوع و(م) و(ص): ((الكعبة)).
[29] قوله ((إليه)) ليس في (م).
[30] في (م): ((في ذلك)).
[31] في المطبوع و(م) و(ص): ((نزلت)).
[32] في (ص): ((فقد)).
[33] زاد في (م): ((ذلك)).
[34] في (م): ((الفرض، كان كذلك)).
[35] زاد في (م): ((في)).
[36] في المطبوع و(ص): ((ويمرُّ)).
[37] في (م) و(ص): ((ولم)).
[38] في (ص): ((من)).
[39] في (م): ((و)).
[40] في (م): ((والقول)).
[41] في (م) و(ص): ((ولا الاستعلام)).
[42] في (ص): ((في)).
[43] في (م): ((واقتدوا)).