شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا كان الثوب ضيقًا

          ░6▒ بَابُ: إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا.
          فيهِ: جابرٌ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ، فَقَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبيِّ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ(1) أَمْرِي، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ وَصَلَّيْتُ إلى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَا السُّرَى يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ، قَالَ: مَا هَذَا الاشْتِمَالُ الَّذي رَأَيْتُ؟ قُلْتُ: كَانَ ثَوْبٌ(2)، قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ). [خ¦361]
          وفيهِ: سَهْلُ بنُ سَعْدٍ قَالَ: (كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبيِّ صلعم عَاقِدِي / أُزُرِهِمْ على أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا). [خ¦362]
          قال المؤلِّفُ: حديث جابرٍ هذا يُفَسِّرُ حديث أبي هريرةَ الَّذي في الباب قبل هذا أنَّ النَّبيَّ صلعم قال(3): ((لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ)) [خ¦359]، أنَّه أراد الثَّوب الواسع الَّذي يمكن أن يشتمله، وأمَّا إذا كان ضيِّقًا ولم يمكنه(4) أن يشتمله فليتَّزر به كما(5) قال صلعم، فإن قيل: قوله صلعم: ((لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ))، هو نهيٌ عن الصَّلاة في الثَّوب الواحد متَّزرًا به. فظاهره: يُعارض قوله: ((وَإِنْ(6) كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ(7) بِهِ))، ويُعارض حديث بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ أنَّ النَّبيَّ(8) صلعم نهى أن يُصَلِّي الرَّجُل في سراويل وحدَه رواه ابنُ وَهْبٍ عن زَيْدِ بنِ الحُبَابِ عن أبي المُنِيْبِ(9) عن عبدِ اللهِ بنِ بُرَيْدَةَ عن أبيه.
          قال الطَّحَاوِيُّ: ومحمل النَّهي في ذلك عندنا للواجد لغيره، فأمَّا(10) مَن لم يجد غيره فلا بأس بالصَّلاة فيه كما لا بأس بالصَّلاة في الثَّوب الضَّيِّق متَّزرًا به، فعلى هذا تتفق معاني الآثار ولا تتضادُّ. قال المؤلِّفُ(11): ويشهد لصحَّة ما قال(12) الطَّحَاوِيُّ أنَّ الَّذين كانوا يعقدون أُزُرهم على أعناقهم لم يكن لهم غيرها _والله أعلم_(13) إذ(14) لو كان لهم غيرها للبسوها في الصَّلاة، وما احتيج أن ينهى النِّساء عن رفع رؤوسهنَّ حتَّى يستوي الرِّجَال جلوسًا، وتختلف أحكامهم في الصَّلاة، وذلك مخالفٌ لقوله صلعم(15) في الإمام: ((فَلَا(16) تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ))، ولقوله(17) صلعم: ((فَإذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا))، ألا ترى أنَّ عَمْرَو بنَ سَلَمَةَ حين كان يُصَلِّي بقومه وتنكشف عورته، لم تكن له غير تلك الجُبَّة القصيرة، فلما اشتُريت له جُبَّةٌ سابغةٌ تستره في الصَّلاة قال: فما فرحتُ بشيءٍ فرحي بها. وفي حديث سَهْلٍ: أنَّ الثَّوب إذا أمكن أن يشتمل به وإن لم يكن سابغًا أنَّ الاشتمال أولى به من الاتِّزار؛ لأنَّ الاشتمال يستر العورة(18) مِن الاتِّزار، ولذلك لم يُؤمر الَّذين عقدوا أُزرهم على عواتقهم(19) بالاتِّزار بها، والله أعلم. وإنَّما نهى النِّساء عن رفع رؤوسهنَّ خشية أن يلمحن شيئًا مِن عورات الرِّجَال عند الرَّفع مِن السُّجُود، وهذا كلُّه حمايةٌ مِن النَّظر إلى عورة المصلِّي(20)، ولا خلاف بين العلماء أنَّ المصلِّي إذا تقلَّص(21) مئزرُه أو كَشَفَتِ(22) الرِّيح ثوبه فظهرت عورته، ثمَّ رجع الثَّوب في حينه وفوره أنَّه لا يضرُّ ذلك المصلِّي شيئًا، وكذلك المأموم إذا رأى مِن العورة مثل ذلك لا تنتقض صلاته؛ لأنَّه إنَّما يحرم النَّظر مع العمد ولا(23) يحرم النَّظر فجأةً، وإذا صحَّت صلاة الإمام فأحرى أن تصحَّ صلاة المأموم، وقال(24) ابن القَاسِمِ في «العُتْبِيَّةِ»: إنَّ فرَّط في ردِّ إزاره فصلاته وصلاة مَن تأمَّل عورته باطلٌ. قال المُهَلَّبُ: والاشتمال الَّذي أنكره النَّبيُّ صلعم هو اشتمال الصَّمَّاء المنهيِّ عنه، وهو أن يجلِّل نفسه بثوبه لا(25) يرفع شيئًا مِن جوانبه ولا يمكنه إخراج يديه إلَّا مِن(26) أسفله، فيخاف أن تبدو عورته عند ذلك، فلذلك قال له النَّبيُّ صلعم: (إِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ).
          وقوله: (مَا السُّرَى يَا جَابِرُ؟)، إنَّما(27) سأله عن سُرَاه إذ علم أنَّه لا يأتيه أَحَدٌ ليلًا إلَّا لحاجةٍ، فسأله عن ذلك(28)، يدلُّ على ذلك قول جابرٍ: (فأخبرته بحاجتي)، وفيه طلب الحوائج باللَّيل من السُّلطان لخلاء موضعه وسرِّه.


[1] في (م): ((في بعض)).
[2] في (م): ((ثوبًا واحدًا))، وفي المطبوع و(ص): ((ثوب واحد)).
[3] في (م): ((قبل هذا أنَّه قال ◙)).
[4] في (م): ((يمكن)).
[5] في (ص): ((يشتمل به يتزر كما)).
[6] في (م) والمطبوع و(ص): ((فإنَّ)).
[7] في المطبوع و(ص): ((فليتَّزر)).
[8] في (ص): ((الرسول)).
[9] في (ص): ((المسيب)) وفي الحاشية: ((المنيب)).
[10] في المطبوع و(ص): ((وأمَّا)).
[11] في (م): ((غيره)).
[12] في (م): ((قاله)).
[13] قوله: ((والله أعلم)) ليس في (م).
[14] في (م): ((و)).
[15] في (م): ((في الصَّلاة، وقد قال ◙)). في (ص): ((مخالف لقول الرسول)).
[16] في (م): ((لا)).
[17] في (م): ((وقال)).
[18] في (ص): ((أستر للعورة)).
[19] في (م): ((رقابهم)).
[20] زاد في (م): ((وهذا يشبه حديث عمرو بن سلمة)).
[21] في (م): ((نقض)).
[22] في (م): ((كشف)).
[23] في (م): ((فلا)).
[24] في (م): ((قال)).
[25] في (م): ((ولا)).
[26] في (ص): ((عن)).
[27] في (م): ((فإنَّما)).
[28] في (م): ((حاجته)).