التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب

          ░125▒ بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ العُطَاسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنَ التَّثَاؤُبِ.
          6223- ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺، عن رسول الله صلعم: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: هَا، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ).
          ░126▒ بَابُ إِذَا عَطَسَ كَيْفَ يُشَمَّتُ؟
          6224- ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺، عن النَّبِيِّ صلعم قال: (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ).
          ░127▒ بَابُ لاَ يُشَمَّتُ العَاطِسُ إِذَا لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ.
          6225- ذكر فيه حديث أَنَسٍ ☺: (عَطَسَ رَجُلاَنِ).. الحديث، وقد سلف [خ¦6221].
          ░128▒ بَابُ إِذَا تَثَاءَبَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ.
          6226- ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺، عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صلعم.. الحديث السَّالف [خ¦6223].
          والمحبَّةُ والكراهةُ ينصرفانِ على سببهما، وذلك أنَّ العُطاس يكون مع خِفَّة البَدِن وانفتاح السُّدُد والتَّثَاؤُب يغْلُبُ عند الامتلاء، وسببه الإكثارُ مِن المأكلِ والتَّخليط فيه فيكسَلُ المرء عن فعل الخير. والتَّثَاؤُبُ: مهموزٌ، مصدر تَثَاءَبَ، ولا تقل: تَثَاوب.
          فَصْلٌ: قوله: (فَحَقٌّ) أي: متأكَّدٌ، كما قال ◙: ((مِن حقِّ الإبلِ أن تُحلَب على الماء)) أي: أنَّه حقٌّ في كَرَم المواساة لا فرضٌ لاتِّفاق أئمَّة الفتوى أنَّه لا حقَّ في المال سوى الزكاة، وقيل: إنَّهُ فَرْض كِفايةٍ، إذا شمَّت واحدٌ سقطَ عن الباقين. قاله أبو سُلَيْمَان، وحُكي عن مالكٍ كالسَّلام.
          وقال أهل الظاهر: هو واجبٌ متعيِّنٌ على كلِّ مَن سمعَ حَمْدَ العاطِس. واحتجَّوا بهذا الحديث، وذكر الدَّاوُدِيُّ عن مالكٍ: أنَّ كلَّ مَن سَمِعَه يُشمِّته، والذي في «المعونة»: ينبغي ذلك، وهو دالٌّ على أنَّه أمر إرشادٍ وندْبٍ.
          فَصْلٌ: (فَإِذَا قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) واختُلف في اختيار قول العاطِسِ عند عُطَاسِهِ، وفيما يقوله له المشمِّتُ، وفيما يردُّ به العاطِس: فمذهبُ ابن عبَّاسٍ وابن مَسْعُودٍ والنَّخَعِيِّ ومالكٍ: الحمدُ، على ما في هذا الحديث. ورُوي عن ابن عُمَر وأبي هُرَيْرَةَ: الحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
          وقال ابن عُمَر: هكذا علَّمنا رسول الله صلعم. ورُوي عن أمِّ سَلَمَةَ: عَطَس رجلٌ في جانبِ بيت رسول الله صلعم، فقال: الحمدُ للهِ، ثمَّ عَطَس آخرُ، فقال: الحمدُ لله ربِّ العالمين حمداً كثيراً طَيِّباً مباركاً فيه، فقال ◙: ((ارتفَعَ هذا على هذا تسع عشرة درجةً)) وقيل: هو بالخِيَار في ذلك كلِّه.
          قال الدَّاوُدِيُّ: قيل: إنَّ العاطِسَ إذا قال: الحمدُ لله فقط، قالت الملائكة: ربِّ العالمين، وإن زاد: ربَّ العالمين شمَّتته. وصوَّب الطَّبَرِيُّ التخييرَ في ذلك كلِّه، وقد رُوي عن رسول الله صلعم كلُّ ذلك، وفعله السَّلف الصَّالحون فلم يُنكر بعضهم مِن ذلك شيئاً على بعضٍ.
          فأمَّا ما يقول المشمِّت، فقيل: يرحمُكَ الله على ما في الحديث، رُوي ذلك عن أنسٍ، وروايةٌ عن ابن مَسْعُودٍ، وهو مذهب مالكٍ وغيره، وروى عَمْرو بن دِيْنَارٍ عن عُبَيدِ بن عُمَيرٍ قال: ((لَمَّا فرغَ اللهُ مِن خَلْقِ آدم عَطَس آدمُ، فألقى عليه الحمدَ، فقال له تعالى: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ)). ورُوي عن إبراهيمَ قال: كانوا يعمُّون بالتشميت والسَّلام، وكان الحَسَنُ يقول: الحمدُ لله يرحمكم الله، وعن ابن مَسْعُودٍ وابن عُمَر وسالمٍ وإبراهيمَ: يرحمنا الله وإيَّاكم.
          وأمَّا ما يردُّ به العاطِس، فعند مالكٍ والشَّافِعِيِّ لفظان: يهديكم الله ويُصلِحُ بالكم، وُروي عن أبي هُرَيْرَةَ، والثاني: يَغْفِرُ الله لكم. قال في «المعونة»: والأوَّل أفضلُ لهذا الحديث ولأنَّ الهداية أفضلُ مِن المغفرة لأنَّها قد تكون بلا ذنبٍ بخِلاف المغفرة. وقال في «تلقينه»: الثاني أحسن. وقيل عن الشَّعْبِيِّ: يهديكم الله.
          ورُوي عن ابن مَسْعُودٍ وابن عُمَر وأبي وائِلٍ والنَّخَعِيِّ والكُوفيِّين أنَّهم أنكروا الأوَّل، واحتجُّوا بحديث أبي موسى أنَّ اليَهُود كانوا يَتَعَاطَسُون عند رسول الله صلعم رجاءَ أن يقول: يرحمكم الله، فيقول ذلك. قيل: وإنَّما هذا يُدعى به لغير المسلمِ. وهذا الحديث حُجَّةٌ عليهم. قال الطَّبَرِيُّ: ولا وجه لقولهم. واحتجَّ عليهم الطَّحاويُّ بقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} الآية [النِّساء:86]، فإذا قال جواب (يرحمك الله): يَغْفِر الله لكم، فقد ردَّ مثل ما حيَّاه به، وإذا ردَّ: بـ (يهديكم الله) إلى آخره، فقد ردَّ أحسن لأنَّ المغفرةَ ستر الذُّنُوب، والرَّحْمة ترك العِقاب عليها ومَن هُدِي بَعُدَ مِن الذُّنُوب، ومَن أصلحَ بالَهُ فحاله فوق حالِ المقول له، فكان ذلك أَوْلَى، والبال: الحال تقول: ما بالُكَ أي: ما حالُكَ؟
          فَصْلٌ: / إنَّما لم يُشمِّت الآخر تأديباً، ولم يأمره بالحمد ليشمِّتَهُ لعله رآه أبلغَ في الموعظة، وقد قيل: إنَّ من سبق العاطِس بالتحُمَيْد أمِن مِن وَجَع الضِّرس، وقيل: الخَاصِرة. وذُكر عن بعض العِلْماء أنَّه قال لمن لم يحمدُ: كيف يقول العاطِس؟ فقال: الحمدُ لله. قال: يرحمك الله.
          فَصْلٌ: قد جاء في آخر الحديث معنى كراهية التَّثاؤُب وهو مِن أجل ضَحِك الشَّيطان منه، فواجبٌ إخزاؤه وزجره بردِّ التَّثاؤب، كما أمر به الشارع، بأن يضَعَ يدَهُ على فيهِ.
          فَصْلٌ: قال ابن القاسم: رأيتُ مالكاً إذا تثاءَبَ يضَعُ يده على فيهِ وينفثُ في غير الصَّلَاة، وما أدري ما نعملُهُ في الصَّلَاة. قال في «المستخرجة»: كان لا ينفثُ فيها. فإن: قلتُ: ليس ذلك في الحديث. قلتُ: بلى، في التِّرْمِذِيِّ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: ((فليضَعْ يدَهُ على فيهِ)).
          وفي مُسْلمٍ في آخر «صحيحه» مِن حديثِ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: ((فَلْيُمْسِك بيدهِ على فيهِ)). وبوَّب له البُخَارِيُّ ولم يأتِ به فيه، ولعلَّه فَهِمَه مِن قوله: ((فليردَّهُ ما استطاعَ)). فهو مِن ردِّه، وقد قال: ((ضَحِك منه الشَّيطان)). وفي آخرَ: ((فإنَّ الشَّيطان يدخلُ)). فإذا كان وضع اليد مانعاً مِن دخوله ومِن ضَحِكِهِ مِن جوفِهِ، كان فيه ردٌّ لموجب التَّثَاؤُب، وكأنَّه ردَّ التثاؤب نفسَه. فَصْلٌ: ومعنى إضافة التَّثَاؤُب إلى الشَّيطان: إضافة رِضىً وإرادةٍ أنَّه يحبُّ أن يرى تثاؤب الإنسان لأنَّها حال المثلبَةِ وتغييرٌ لصُورته فيضحكُ مِن جُوفهِ، لا أنَّ الشَّيطان يفعل التَّثاؤب في الإنسان لأنَّه لا خالِقَ للخير والشرِّ غير الله. وفي أبي داودَ: ((إذا تَثَاءَبَ أحدُكم فَلْيُمْسِكْ يدَهُ على فِيهِ فإنَّ الشَّيطان يَدْخُلُ)). فكلُّ ما جاء مِن الإضافة إلى الشَّيطان فعلى معنى إضافةِ رِضىً وإضافة وَسْوَسةٍ.
          فائِدَةٌ: مِن عَلَامات النُّبوَّة عدم التَّثَاؤُبِ، رُوي عن مسلَمَةَ بن عبد الملك بن مروانَ: ما تثاءبَ نَبِيٌّ قطُّ، أَلَا وإنَّها مِن عَلَاماتِ النُّبوَّة. وفي «تاريخ البُخَارِيِّ» مرسلًا ((أنَّه ◙ كان لا يتثاءب)).
          آخِرُ كِتَابِ البِرِّ والصِّلَةِ بِحَمْدِ اللهِ وَمَنَّه.