التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: إنما الكرم قلب المؤمن

          ░102▒ باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (إِنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ).
          وَقَدْ قَالَ: (إِنَّمَا المُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ القِيَامَةِ) كَقَوْلِهِ: (إِنَّمَا الصُّرَعَةُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ) كَقَوْلِهِ: (لاَ مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ فَوَصَفَهُ بِانْتِهَاءِ المُلْكِ)، ثُمَّ ذَكَرَ المُلُوكَ أَيْضًا فَقَالَ: {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34].
          6183- ثمَّ ذكر حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: (وَيَقُولُونَ الكَرْمُ، إِنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ).
          الشَّرح: قوله: (إِنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ) و(إِنَّمَا المُفْلِسُ) و(إِنَّمَا الصُّرَعَةُ).
          و(إنَّما): هو على المبالغة أي: ليس المفلِسُ كلَّ الإفلاس إلَّا مَن لم يكن له حَسَناتٌ يوم القيامة مِن أجل أنَّهُ قد يكون في الدُّنْيَا مُفلِساً مِن المال، وهو غنيٌّ يوم القيامة بحسناتهِ، والغنيُّ في الدُّنْيَا قد يكون مفلِساً يوم القيامة، وهذا على المبالغة وكذلك الصُّرَعة ليس الذي يغلِبُ النَّاس ويصرعهم بقوَّته، إنَّما الصُّرَعة الذي يملِكُ نفسه.
          قال المُهَلَّب: وغرضُهُ في هذا الباب _والله أعلم_: أن يُعرِّف بمواقع الألفاظ المشتركة، وأن يقتصِرَ في الوصف على ترك المبالغة والإغراق في الصِّفات إذا لم يَستحقَّ الموصوف ذلك، ولا يبلغ النِّهايات في ذلك إلَّا في مواضعها وحيث يليقُ الوصفُ بالنِّهاية.
          واعترض ابن التِّين فقال: الظَّاهر أنَّ البُخَارِيَّ إنَّما أرادَ ما يكون في مواضع ليست تَخصُّ الحكم بالمذكور وتضعُهُ عمَّا عَدَاه لأنَّ (إنَّما) عند أهل النحو واللُّغة للحَصْر والقطع كقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة:60]. فأورد البُخَارِيُّ هذا أنَّها قد تقع لغير الحَصْر، ويدلُّ على ذلك تشبيههِ بقوله: (لاَ مُلْكَ إِلَّا لِلَّهِ). وقال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34].
          فَصْلٌ: وقوله: (إِنَّمَا المُفْلِسُ) قال ابن فارسٍ: يُقال: أفلسَ إذا صارَ ذا فُلُوسٍ بعد أن كان ذا دَرَاهِم.
          وقال الجَوْهرِيُّ: كأنَّما صارت دَرَاهِمُهُ فُلُوساً وزُيُوفاً. كما يُقال: أجبنَ إذا صار أصحابُهُ / جُبَنَاء، واقتطفَ صارت دابَّته قَطُوفاً.
          ويجوز أن يُراد صار إلى حالٍ يُقال فيها: ليس معه فَلْسٌ، كما يُقال: أَقْهَر الرجل صارَ إلى حال القَهْر عليها، وأذلَّ صار إلى حالٍ يُذلُّ فيها، وقد فلَّسه القاضي تفليساً: نادى عليه أنَّه أَفْلَس.
          فَصْلٌ: وقوله: (إِنَّمَا الكَرْمُ قَلْبُ المُؤْمِنِ) أي: لِمَا فيه مِن نور الإيمان والتقوى. قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وقال في الباب قبلَه: ((لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ)). وهذا هو المشهور في اللُّغة أنَّ الكرْم بسكون الراء: العِنَب. قال الأَزْهَريُّ: سُمِّي العِنَب كَرْماً لكرمِهِ وذلك أنه ذُلِّل لقاطفِهِ، وليس عليه سُلَّاء فيُعقر جانيهِ وَيَحمِل الأصل منه مثل ما تَحْمِل النَّخْلة وأكثر، وكلُّ شيءٍ كبُر فقد كرُم. وقال ابن الأنباريِّ: سُمِّيَ كَرْماً لأنَّ الخَمْر منه وهي تحثُّ على السَّخاء وتأمر بمكارم الأخلاق، كما سمَّوها رَاحَاً. قال الشاعر:
.................                     والخَمْرُ مُشَتَقَّةُ المعْنَى مِن الكَرَمِ
          ولذلك قال: ((لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ)) كره أن يُسمَّى أصل الخَمْر باسمٍ مأخوذٍ مِن الكَرَم، وجعل المؤمن الذي يَتَّقِي شُربها، ويرى الكَرَم في تركها أحقَّ بهذا الاسم الحَسَن تأكيداً لحُرْمَتِهِ، وأسقطَ الخمر عن هذه الرُّتبة تحقيراً لها.
          وقيل: تأكيداً لتحريمها وسَلْباً للفضيلة بتغيير اسمها المأخوذ عندهم مِن اسم الكَرم، إذ في تسليمِ هذا الاسم لها تقرير لدعواهم فيها فأمر بأن لا تُدعى كَرْماً، وأن لا تُسمَّى مواضعها وأشجارها حدائِقَ الأعناب. وقال أبو حاتِمٍ: قال رجلٌ مِن أهل الطَّائِف:
شُققتِ مِن الصبا واشتُقَّ مِنِّي                     كما اشتُقَّت مِن الكَرَم الكُرُومُ