التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من وصل وصله الله

          ░13▒ بَابُ مَنْ وَصَلَ وَصَلَهُ اللَّهُ.
          ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
          5987- أحدها: حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} الآية [مُحَمَّد:22]).
          5988- ثانيها: حديث أبي هُرَيْرَةَ أيضاً ☺، عن النَّبِيِّ صلعم قال: (الرَّحِمُ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ ╡: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ).
          5989- ثالثها: حديث عائِشَة ♦ عن النَّبِيِّ صلعم: (قال الله: الرَّحِمُ شِجْنَةٌ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ).
          قال الطَّبَرِيُّ: معنى وصلَ الله عبدَهُ إذا وصلَ رَحِمه تعطُّفهُ عليه بفضله، إمَّا في عاجل دُنياه أو آجل آخرته، والعرب تقول إذا تفضَّل رجلٌ على آخر بمالٍ أو وَهَبه: وصَلَ فلانٌ فلاناً بكذا. وتُسمِّي العطيَّةُ صِلةً، فتقول: وَصَلَتْ إلى فلانٍ صِلَةُ فُلانٍ. وكذلك قوله تعالى في الرَّحِم: (مَنْ وَصَلَهَا). يعني: وَصَلْتُه بفضلي ونِعَمي.
          وصِلَة العبد رحمهُ فتعطُّفه على ذوي أرحامهِ مِن قِبَل أبيه وأمِّه بتواصل فضلهِ.
          فإن قلت: أفما يكون المرء واصلاً رَحِمه إلَّا بتعطُّفِه عليهم / بفضل ماله، قيل: البِرُّ والأرحام مراتبُ ومنازل، وليس ممَّن يبلغ أعلى تلك المراتب يستحقُّ اسم قاطعٍ كما مَن لم يبلُغ أعلى منازل الفضل يستحقُّ اسم الذمِّ، فواصِلُ رَحِمه بمالهِ يستحقُّ اسم واصلٍ، وواصلها بمعونته ونُصرته يستحقُّ اسم واصلٍ، وقد بيَّن ذلك قوله ◙: ((بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام)). فأعلمَ أمَّته أنَّ المتعاهِدَ لِرَحِمه بالسلام خارِجٌ مِن معنى القاطِع وداخلٌ في معنى الواصل، فواصلُها بما هو أعلى وأكثر أحقُّ أن يكون خارجاً مِن معنى القاطع.
          فَصْلٌ: والشِّجْنَةُ: أصلها بالكسر والضمِّ، شُعْبَة مِن غُصُون الشَّجر. ومعناه: قرابةٌ مُشبكةٌ بعضه ببعضٍ، قاله أبو عُبَيدٍ. وقال غيره: يُقال هذا شَجَرٌ مُتَشَجِّنٌ إذا التفَّ بعضُهُ ببعضٍ، ومنه الحديث المتقدِّمُ ذو شُجُونٍ، أي: يدخلُ بعضهُ في بعضٍ.
          وقال الطَّبَرِيُّ: الفِعْلة من قولهم: شَجِن فلانٌ على فلانٍ إذا حزنَ عليه فَشَجِن عليه شَجْناً، والمعنى: أنَّ الرَّحِم حزينةٌ مستعيذةٌ بالله تعالى مِن القَطِيعة.
          وقال ابن التِّين: (شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحمَنِ) مشتقَّةٌ منه يعني أنَّها قرابةٌ مُشْتَبِكةٌ كاشتباك العُرُوق، بالضمِّ وبه قرأناه، وبالكسر وأصله: الغُصن مِن أغصان الشَّجر يُقال فيه.
          قال ابن العَربيِّ في «سِراجه»: وأمَّا قول أبي عُبَيدٍ: الشَّجن قَرَابة مُشْتَبِكَةٌ، فغير صحيحٍ لأنَّه لا قرابةَ بين الله والعبد، وإنَّما الشُّجُون في المحسوسُ هي الأغصانُ في الشَّجر والعُرُوق في البدنِ، وفي المعقُول معاني الحديث الذي يتعلَّقُ بعضها ببعضٍ، ففي المحسوسِ اتِّصالُ بعضها ببعضٍ في حَيِّزٍ وتمامها في مكانٍ، وفي المعقول ارتباط بعضها ببعضٍ، فارتباطها بالرَّحمن إنَّما هو بالدَّلالة والأمر بحفظها منه.
          وقال ابن الجَوْزِيِّ: هذا الحديث لا يخلو معناه مِن أحد شيئين: إمَّا أن يُراد أنَّ الله يرعى الرَّحِم أو أن يُراد أنَّ الرَّحِم بعضُ حروف الرَّحمن، فكأنَّه عظَّم قَدْرها بهذا الاسم.