التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من التمادح

          ░54▒ بَابُ ما يُكرهُ مِن التَّمَادُحِ.
          6060- ذكر فيه حديث أبي موسى ☺ قال: (سَمِعَ النَّبِيُّ صلعم رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ ويمدحُهُ فَقَالَ: أَهْلَكْتُمْ، أَوْ: قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ).
          6061- وحديث أبي بكْرةَ ☺ (أنَّ رجلاً ذُكِرَ عِنْدَ رسول الله صلعم فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ ◙: وَيْحَكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ _يَقُولُهُ مِرَارًا_ إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللَّهُ، وَلاَ يُزَكَّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا. وقَالَ وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ: وَيْلَكَ).
          الشرح: حديث أبي موسى سلف في الشهادات [خ¦2663]، وكذا حديث أبي بكْرة [خ¦2662]، وأخرجه مسلمٌ آخر «صحيحه» وأخرج الأوَّل عن شيخ البُخَارِيِّ، والإِطْراءُ: مُجاوزة الحدِّ في المدْحِ والكَذِب فيه، وهو رُبَاعِيٌّ غير مهموزٍ، وقيل: المدْحُ بما ليس فيه.
          ومعنى الحديث _والله أعلم_ النَّهي أن يُفرط في مدْح الرجل بما ليس فيه فَيَدْخُلَهُ مِن ذلك الإعجابُ، ويظنُّ أنَّه في الحقيقة بتلك المنزلة، ولذلك قال ◙: (قَطَعْتُمْ ظَهَرَ الرَّجُلِ)، حينَ وصفتموه بما ليس فيه، فربَّما حملَهُ ذلك على العُجْب والكِبْر وعلى تضييعِ العمل وترك الازديادِ مِن الفضل، واقتصَرَ على حاله مَن جعل موصوفاً بما وُصِف به. وكذلك تأوَّل العِلْماء في قوله ◙: ((احثُوا التُّراب في وجوهِ المدَّاحين)) أنَّ المراد المدَّاحون النَّاس في وجوههم بالباطلِ وبما ليس فيهم.
          ولذلك قالَ عُمَر ☺: المدْحُ هو الذَّبح. ولم يرد به مَن مدح رجلاً بما فيه، فقد مُدح رسول الله صلعم في الشِّعر والخُطَب والمخاطَبَةِ، ولم يحثُ في وجوه المدَّاحين الترابَ ولا أمرَ به، كقول أبي طالبٍ فيه:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ                     ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
          وكمدْحِ العَبَّاس وحسَّان له في كثيرٍ من شِعره وكعْبِ بن زُهَيرٍ، وقد مدح رسولُ الله صلعم الأنصارَ فقال: ((إنَّكم لتَقِلُّون عند الطَّمع وتكثرون عند الفَزَع)) ومثله قوله ◙: ((لا تُطْرُوني كما أَطْرتِ النَّصَارى عيسى ابن مريمَ، قولوا: عبد الله، فإنَّما أنا عبد الله ورسوله)) أي: لا تَصِفُوني بما ليس فيَّ مِن الصِّفات، تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النَّصَارى عيسى بما لم يكن فيه فنسبُوهُ إلى البُنوَّة فكفروا بذلك وضلُّوا.
          فأمَّا وصفهُ بما فضَّلَه الله به وشرَّفه فحقٌّ واجِبٌ على كلِّ مَن بعثَهُ الله إليه مِن خَلْقه، وذلك كوصفه ◙ نفسه بما وصفها فقال: ((أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ، وأنا أوَّلُ مَن تنشقُّ عنه الأرضُ)).
          وفي هذا مِن الفقه: أنَّ مَن رفعَ أمرأً فوق حقِّه، وتجاوز به مقداره بما ليس فيه فمتعدٍّ آثمٌ؛ لأنَّ ذلك لو جاز في أحدٍ لكان أَوْلى الخَلْق به نبيُّنا عليه الصَّلَاة والسلام، ولكنَّ الواجب أن يَقْصُر كلُّ واحدٍ على ما أعطاه الله مِن منزلةٍ، ولا يُعدَّى به إلى غيرها مِن غير قطْعٍ عليها، أَلَا تَرَى قوله ◙ في حديث الباب: ((إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ)) الحديث.