التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب هجاء المشركين

          ░91▒ بابُ هِجَاءِ المُشْرِكينَ.
          6150- ذكر فيه حديث هِشَامٍ عن أبيه عن عائِشَة ♦، (اسْتَأْذَنَ حَسَّانُ بنُ ثابتٍ رسولَ الله صلعم فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: فَكَيْفَ بِنَسَبِي؟ فَقَالَ حَسَّانُ: لأسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ).
          وعن هِشَامٍ عن أبيه قال: (ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عائِشَة، فَقَالَتْ: لا تَسُبُّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلعم).
          6151- وحديث الهيثمِ بن أبي سِنَانٍ أنَّه سَمِع أبا هُرَيْرَةَ ☺ في قَصَصِهِ يذكرُ رسول الله صلعم يقول: (إِنَّ أَخاكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ) يَعْنِي بِذَلِكَ ابْنَ رَوَاحَةَ، قَالَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ                     ............
          إلى آخر الأبياتِ. سلف في الصَّلَاة في باب فَضْل مَن تعارَّ بالليل، بذكر المتابعة [خ¦1155].
          6152- وحديث أبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه سمع حسَّانَ بن ثابتٍ الأنصاريَّ يستشهدُ أبا هُرَيْرَةَ يقول: يا أبا هُرَيْرَةَ، نشدتُكَ باللهِ هل سمعتَ رسول الله صلعم يقولُ: (يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ).
          6153- وحديث البَرَاء أنَّه ◙ قال لحسَّانَ: (اهْجُهُمْ _أَوْ قَالَ: هَاجِهِمْ_ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ).
          الشرح: الهِجَاءُ خِلاف المَدْح، يُقال: هَجَوْتُهُ هَجْواً وَهِجَاءً، ولا تقول: هَجَيْتُهُ. ولعلَّه إنَّما أَذِنَ له بعد هَجْوهم إيَّاهُ، فيكون ذلكَ جزاءً لهَجْوهم، كما في الحديث الآخر: ((اللَّهُمَّ إنَّ فلاناً هَجَاني فاهْجُهُ)). أي: جاوبهُ، وهذا كقوله {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]؛ لأنَّه ◙ منزَّهٌ عن البدء بالذمِّ. والمهاجاة أن يجيب مَن هَجَاه. ومعنى: (لأَسُلَنَّكَ مِنهُم): أُخرجك نَقَيَّاً مِن العُيُوب. وكان ◙ كذلك لم تمسَّه ولادة حرامٍ مِن آدمَ إليه، وكان أعزَّ قُرَيشٍ مجداً وأشرفهم أباً.
          ومعنى (يُنَافِحُ): يخاصِمُ ويُدَافِعُ، تقول العرب: نَافَحْتُ عن فُلانٍ، وَنَفحتُ عنه: إذا خاصمتُ عنه، والمُخَاصَمة والمُنَافَحَةُ لا تكون إلَّا مِن اثنين لأنها مُفَاعلةٌ، وكلُّ مُفَاعلةٍ كذلك.
          و (الرَّفَثَ): الفُحش مِن القول، تقول منه: رَفِثَ الرجل وأَرْفَثَ. وكان شعراءُ النَّبِيِّ صلعم ابنَ رَوَاحة وحسَّانَ وكعْبَ بن مالكٍ.
          وكان الذين يهجونهُ مِن قُرَيشٍ عَمْرو بن العاصي، وعبد الله بن الزِّبَعْري، وأبو سُفْيَان بن الحارث أخو رسول الله صلعم مِن الرَّضاعة وابن عمِّه.
          قال الدَّاوُدِيُّ: وفي حسَّان وصاحبيهِ نَزَلت: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]. وسلف عن ابن عبَّاسٍ أنَّها نَزَلَت في حسَّان وابن رَوَاحَة، وذكر أنَّ المشركين لَمَّا هجوا رسول الله صلعم قال: ((ما حقُّ قومٍ نَصَروا رجلاً بأسيافهم إلَّا ينصروه بألسنتهم)). فأتاه حسَّانُ وقد أخرج لسانَهُ يَضْرِبُ به أنفَهُ وَعَلا لِسَانَهُ فقال: والله لأفرينَّهم فَرْيَ الأَدِيم. فلمَّا هَجَاهُم، قال ◙: ((والذي نفسي بيدهِ إنَّه لأشدُّ عليهم مِن رَشْق النَّبل)). وهَجَاهُ واحدٌ، فقال ◙: ((إنِّي لا أُحسِنُ الشِّعر، فالْعنُه بكلٍّ بيتٍ لعنةً)).
          فَصْلٌ: هِجَاءُ المشركين أهل الحرب وسبُّهم جائزٌ بهذه الأحاديثِ وأنَّه لا حُرمة لهم إذا سبَّوا المسلمين، والانتصار منهم بذمِّهم وذِكْر كُفرهم وقبيحِ أفعالهم من أفضل الأعمال عند الله.
          أَلَا / تَرَى قوله ◙ لحسَّانَ: (اهْجُهُمْ _َوْ هَاجِهِمْ_ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ)، وقوله: (اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ)؟ وكفى بذلك فَضْلاً وشَرَفاً للعمل والعامل به.
          فأمَّا إذا لم يسبَّ أهل الحرب المسلمين فلا وجه لسبَّهم لأنَّ الله تعالى قد أنزل على نبيِّه في قُنُوته على أهل الكُفْر: إنَّ الله لم يبعثكَ لعَّاناً ولا سبَّاباً، وإنَّما بُعثت رحمةً، ولم يَبْعَثْكَ عذاباً، فترك سبَّهم.
          فإن قلت: فما دليلُكَ أنَّه ◙ أمرَ حسَّاناً بهجاء المشركين لينتصرَ منهم لهجوهم المسلمين؟ قيل: قول عائِشَة ♦: (إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنهُ) يقتضيهِ كما سلف، ويبيِّن ذلك قوله لأبي هُرَيْرَةَ: (نَشَدْتُكَ بالله، هَلْ سمعتَ رسول الله صلعم يقولُ: (يَا حسَّانُ، أجِبْ عَنْ رَسولِ الله صلعم؟ قال: نَعَمْ).
          فبان أنَّ هِجاء المشركين إنَّما كان مجازاةً لهم على قبيحِ قولهم. روى ابن وَهْبٍ عن جَرِيرِ بن حازِمٍ قال: سمعتُ ابن سِيرينَ يقول: هَجَا رسولَ الله صلعم والمسلمين ثلاثةُ رَهْطٍ مِن المشركين وقد سلف ذكرهم، فقال المهاجرون: يا رسول الله، أَلَا تأمرُ عليَّاً أن يهجو عنَّا هؤلاء القوم؟ فقال: ((ليس عليٌّ هنالكَ)). ثمَّ قال: ((إذا القوم نصروا رسول الله صلعم بأيديهم وأسلحتهم، فبألسنتهم أحقُّ أن يَنْصُرُوه)) فقالت الأنصار: أرادنا، فأتوا حسَّان بن ثابتٍ، فذكروا له ذلك، فأَمهَلَ حتَّى وقفَ على رسول الله صلعم فقال: يا رسول الله، والذي بعثكَ بالحقِّ، ما أحبُّ أنَّ لي بقولي ما بين صَنْعَاءَ وبُصْرى، فقال ◙: ((أنتَ لها يا حسَّانُ)) قال: يا رسول الله، لا عِلْم لي بِقُرَيشٍ، فقال ◙ لأبي بكْرٍ: ((أخبره عنهم ونقِّب له في مَثَالبِهم)) فهَجَاهم حسَّانُ وعبدُ الله بن رَوَاحة وكعْبُ بن مالكٍ، وقد أسلفناه مختصراً. ورواه مَعْمَرٌ عن أيُّوبَ عن ابن سِيرينَ وقال: العاصي بن وائِلٍ مكان عَمْرو بن العاصي.
          فَصْلٌ: قوله: (فَكَيْفَ بِنَسَبِي؟) قال المُهَلَّب: أراد كيف تهجوهم ونَسَبي المهذَّب الشريف فيهم؟ فربَّما مسَّني مِن الهَجْو نَصِيبٌ. فقال: (لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ) أي: لأُخَلِصنَّك مِن بينهم بالسَّلامة مِن الهِجَاء، أي: أهجوهم بما لا يَقْدَح في نسبِهمُ الماسِّ له ◙، ولكن أهجوهم بسيِّءِ أعمالهم وما يخصُّهم عارَّة في أنفسهم ويُبْقِي فيهم وَصْمةً مِن الأخلاق والأفعال المذمومةِ التي طهَّر الله نبيَّهُ منها ونزَّهَهُ مِن عيبِها.
          فَصْلٌ: وقوله في عبد الله بن رَوَاحة: (أنَّهُ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ في شِعْرِهِ) حجَّةٌ على أنَّ ما كان مِن الشِّعر فيه ذِكْر الله والأعمال الصَّالحة فهو حَسَنٌ، وهو الذي قال فيه: ((إنَّ مِن الشِّعْر حكمةً)) وليس مِن المذموم الذي قال فيه ما يأتي في الباب إثرَه.