التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصبر على الأذى

          ░71▒ بابُ الصَّبْرِ عَلَى الأَذَى.
          وَقَوْلِ اللهِ تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
          6099- ذكر فيه حديث أبي مُوسَى ☺ عن النَّبِيِّ صلعم قال: (لَيْسَ أَحَدٌ، أَوْ: لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى الأَذى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ╡، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ الوَلَدَ، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ).
          6100- وحديث شَقِيقٍ عن عبد الله ☺: (قَسَمَ النَّبِيُّ صلعم قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ.
          قال: أَمَّا لَأَقُولَنَّ لِلنَّبِيِّ صلعم، / فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رسول الله صلعم وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ، حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ).
          الشرح: قوله: (لَيْسَ أَحَدٌ أَصْبَرُ) أوَّله ابن فُورَك على الحِلم.
          وقوله: (أَمَا لَأَقُولَنَّ) صوابه _كما قال ابن التِّين_ أن تكون مخفَّفَةً، ووقع في بعض الروايات تشديد الميم، وليس ببيِّنٍ، والربُّ جلَّ جلاله ذَكَر جزاء الأعمال وجعل لها نهايةً وحدًّا فقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالحَسَنةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] وجعل جزاءَ الصَّدَقة في سبيله فوق هذا فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [البقرة:261]. وجعل أجر الصَّابرين بغير حسابٍ، ومَدَح أهلَه فقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43].
          وفي «صحيح مسلمِ»: ((والصبر ضياءٌ))، والصَّبر على الأذى مِن باب جهاد النَّفس وقمعها عن شهواتها ومنعها عن تطاولها، وهو مِن أخلاق الأنبياء والصَّالحين، وإن كان قد جبَلَ الله النُّفُوس على تألُّمِها مِن الأذى ومشقَّتِهِ، أَلَا تَرَى أنَّه ◙ شقَّ عليه تجوير الأَنْصاريِّ له في القِسمة حتَّى تغيَّر وجهه وغَضِب، ثمَّ سكنَ ذلك منه عَلِمه بما وعد الله تعالى على ذلك مِن جزيل الأجر، واقتدى ◙ بصبرِ موسى ◙ على أكثر مِن أذى الأنصاريِّ له رجاءَ ما عند الله. وللصَّبر أبوابٌ غير الصَّبر على الأذى.
          رُوي عن عليِّ ☺ مرفوعاً: ((الصَّبر ثلاثةٌ: فصبرٌ على المصيبةِ، وصبرٌ على الطَّاعة، وصبرٌ على المعصية، فمن صَبَر على المصيبة حتَّى يردَّها بحُسن عَزَائها كتبَ الله له ثلاثمئة درجةٍ، ما بين الدَّرجة إلى الدرجة ما بين السَّماء إلى الأرض، ومَن صبرَ على الطاعة كتب الله له ستَّمئة درجةٍ، ما بين الدَّرجة إلى الدَّرجة ما بين تخوم الأرض السَّابعة إلى منتهى العرش، ومَن صبرَ على المعصية كتب الله له تسعمئة درجةٍ، ما بين الدَّرجة إلى الدَّرجة ما بين تُخُومِ الأرض السَّابعة إلى مُنتهى العرش مرَّتين)).
          وقد روى يزيدُ الرَّقاشِيُّ عن أنسٍ ☺ أنَّه ◙ قال: ((الإيمان نصفانِ: نِصفٌ في الصَّبر، ونِصْفٌ في الشكر)). وروى ابن المُنْكَدِر عن جابر بن عبد الله أنَّه ◙ سُئل عن الإيمان فقال: ((السَّماحة والصَّبر)).
          وقال الشَّعْبِيُّ: وقال: الصَّبر من الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسدِ. قال الطَّبَرِيُّ: صدقَ وذلك أنَّ الإيمان معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللِّسان، وعَمَلٌ بالجوارح، فمن لم يصبر عن العمل بشرائعه لم يستحقَّ اسم الإيمان بالإطلاق. والصَّبر على العمل بالشرائع نظير الرأس مِن جسدِ الإنسان الذي لا تمام له إلَّا به، وهذا في معنى حديث أَنَسٍ وجابرٍ أنَّ الصَّبر نِصف الإيمان، وعامَّةُ المواضع التي ذكر الله فيها الصَّبر وحثَّ عليه عبادَه إنَّما هي مواضعُ الشدائد ومواطن المكارِهِ التي يَعْظُم على النُّفُوس فعلُها، ويشتدُّ عندها جَزَعُها، كلُّ ذلك محنٌ وبلاءٌ أَلَا تَرَى قوله ◙ للأنصار: ((لن تُعطَوا عَطَاءً خيراً وأوسعَ مِن الصَّبر)).
          والصَّبر في لسانِ العربِ: حَبْسُ النَّفْسِ عن المطلوب حتَّى تُدْرِكَه، ومنه نهيه ◙ عن صَبْرِ البهائم، يعني: عن حَبْسها للتمثيل بها، وَرَمْيها كما تُرمى الأغراض. ومنه قولهم: صَبَر الحاكم بيمين فلانٍ. يعني: حَبَسهُ عن حَلْفِهِ.
          فإن قلت: هذه صِفاتٌ توجِبُ التغيُّر وحُدُوث الحوادث لمن وُصف بها، فما معنى وصفه بالصَّبر؟ قلتُ: معناه: هو معنى الحِلم كما أسلفناه، ومعنى وصفه بالحِلم هو تأخير العقوبة عن المستحقِّين لها. ووصفه تعالى بالصَّبر لم يَرِد في التنزيل، وإنَّما ورد في حديث الباب، وتأوَّله أهل السنَّة على تأويل الحِلم، هذا قول ابن فُورَك.