التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من أحق الناس بحسن الصحبة

          ░2▒ بابُ مَن أَحَقُّ النَّاسِ بَحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟
          5971- ذكر حديث جَرِيرٍ، عن عُمَارةَ بن القَعْقَاعِ بن شُبْرُمةَ، عن أبي زُرْعَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاس بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَيَحْيَى بْنُ أيُّوب: حَدَّثَنا أبو زُرْعةَ مِثْلَهُ).
          إنَّما أتى بهذا يُزيل ما في الأوَّل مِن العَنْعَنة، وابن شُبْرُمة اسمهُ عبد الله.
          وتعليقه أخرجه مُسلمٌ عن ابن أبي شَيْبَة، حَدَّثَنا شَرِيكٌ، عن عُمَارَة وابن شُبْرُمة، عن أبي زُرْعةَ. وحَدَّثَنا حِبَّان، حَدَّثَنا وُهَيبٌ، كِلاهما عن ابن شُبْرُمة، عن أبي زُرْعة. فذكره. / والتَّعليق عن يحيى بن أيُّوبَ أخرجه الطَّبَرَانِيُّ في «الأوسط» مِن حديثِه، عن إبراهيم بن مُحَمَّدٍ، عن مُحَمَّد بن حفْصٍ، حَدَّثَنا سهل بن حَمَّادٍ، حَدَّثَنا يحيى بن أيُّوب بن أبي زُرْعةَ بن عمرو بن جَرِيرٍ، حَدَّثَنا جدِّي أبو زُرْعةَ به.
          وفي هذا الحديث دلالةٌ أنَّ محبَّةَ الأمِّ والشَّفَقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثةَ أمثال محبَّةِ الأب؛ لأنَّه ◙ كرَّرها ثلاثاً وذكر الأبَ في الرابعة فقط، وإذا تأمَّل هذا المعنى شهد له العَيَان، وذلك أنَّ صعوبة الحَمْل والوَضْع والرِّضاع والتربية تنفردُ بها الأمُّ وتَشقى بها دون الأب، فهذه ثلاثُ منازلٍ يخلو منها الأب، وقد جرى لأبي الأسودِ الدُّؤَليِّ مع زوجتهِ قِصَّةٌ أبانَ فيها هذا المعنى، ذكر أبو حاتمٍ عن أبي عُبَيدةَ أنَّ أبا الأسود جرى بينه وبين امرأته كلامٌ وأراد أخذ ولدِه منها، فسارَ إلى زِيَادٍ وهو والي البصرة، فقالت المرأة له: أصلحَ الله الأمير، كان بطني له وِعَاءً، وحَجْرِي فِنَاءَه، وثديي سِقَاءه، أكلؤه إذا نامَ، وأحفظهُ إذا قام، فلم أزل بذلك سبعةَ أعوامٍ، حتَّى إذا استوفى فِصَاله، وكمُلت خِصَاله، وأمَّلْت نَفْعه، ورجوتُ دَفْعه، أراد أن يأخذه منِّي كَرْهاً! فقال أبو الأسود: أصلحكَ الله، هذا ابني حملتُهُ قبل أن تحملَهُ، ووضعتُهُ قبل أن تَضَعه، وأنا أقوم عليه في أدبِهِ، وأنظر في أَوَدِه، فقالت المرأة: صدقَ أصلحكَ الله، حمله خِفًّا وحملته ثِقَلاً، ووضعَهُ شهوةً ووضعته كُرْهاً، فقال له زِيَادٌ: ارْدُد على المرأة ولدَها فهي أحقُّ به منكَ، ودَعْني مِن سَجْعك.
          وروى أبو داودَ في «سننه» والحاكم في «مستدركه» وقال: صحيح الإسناد، عن عَمرو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه عبد الله بن عَمْرٍو أنَّ امرأةً قالت: يا رسول الله، إنَّ ابني هذا كان بطني له وِعَاءً، وثديي له سِقَاءً، وحِجْرِي له حِوَاءً، وإنَّ أباه طلَّقني وأراد أن يَنْزِعَهُ مِنِّي، فقال لها ◙: ((أنتِ أحقُّ به ما لم تُنكحي)).
          ورُوي عن مالكٍ أنَّ رجلاً قال له: إنَّ أبي في بلاد السُّودان وقد كتب إليَّ أقدُمَ إليه، وأُمِّي تمنعُنِي مِن ذلك، فقال: أطعْ أباكَ ولا تعصِ أمَّك، فدلَّ قول مالكٍ هذا أنَّ بِرَّهما عنده متساوياً ولا فضلَ لواحدٍ منهما فيه على صاحبه، لأنَّه قد أمره بالتخلُّص منهما جميعاً، وإن كان لا سبيل له إلى ذلك في هذه المسألة، ولو كان لأحدهما عنده فضْلٌ في البرِّ على صاحبه لأمره بالمصير إلى أمره. وقد سُئل اللَّيث عن هذه المسألة فأمَرَهُ بطاعة الأمِّ، وزعم أنَّ لها ثُلُثي البرِّ، وحديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ يدلُّ أنَّ لها ثلاثة أرباعِ البرِّ وأنَّ طاعة الأم مُقَدَّمةٌ، وهو الحجَّةُ على مَن خالفه.
          وزعم المُحَاسِبِيُّ أنَّ تفضيل الأمِّ على الأب في البرِّ والطاعة هو إجماع العِلْماء، وقيل للحسَنِ: ما برُّ الوالدين؟ قال: تبذِلُ لهما ما ملَكْتَ، وتُطيعهما فيما أمراكَ ما لم تكن معصيةً.