التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا تسبوا الدهر

          ░101▒ باب لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ.
          6181- حَدَّثَنا يحيى بن بُكَيرٍ، حَدَّثَنا اللَّيثُ، عن يُونُس، عن ابنِ شِهَابٍ، أخبرني أبو سَلَمَةَ قال: أبو هُرَيْرَةَ ☺: قال رسول الله صلعم: (قال الله تعالى: يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ).
          6182- حَدَّثَنا عيَّاشُ بن الوليد، حَدَّثَنا عبد الأَعْلَى، حَدَّثَنا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺، عن النَّبِيِّ صلعم قال: (لاَ تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، وَلاَ تَقُولُوا: خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ).
          قال الجيَّانيُّ: كذا رُوي هذا الإسناد مِن حديثِ اللَّيث عن يُونُسَ، وفي روايتنا عن أبي عليِّ بن السَّكَن: <حَدَّثَنا اللَّيث، عن عُقَيلٍ، عن ابن شِهَابٍ>. قال: والحديث محفوظٌ ليُونُس عن ابن شِهَابٍ بهذا السَّند.
          وكذا ذكره مُسْلمٌ مِن حديثِ ابن وَهْبٍ عن يُونُس وقال مُحَمَّد بن يحيى الذُّهْلِيُّ في كتاب «عِلل حديث الزُّهْرِيِّ»: حَدَّثَنا أبو صالِحٍ، حَدَّثَنا اللَّيث، عن عُقَيلٍ، عن ابن شِهَابٍ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: سمعتُ / النَّبِيَّ صلعم يقول: ((لا يسبُّ ابن آدَمَ الدَّهْر)) الحديث. وهذه الرِّواية تقوِّي ما في رواية ابن السَّكَن إن كان حفظَه.
          ورواه ابن عُيَيْنَة عن ابن شِهَابٍ، عن سَعِيدٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ عند البُخَارِيِّ أيضاً.
          قال النَّسائيُّ: كلاهما محفوظٌ. وحديث أبي سَلَمَةَ أشهرهما.
          قال الخطَّابيُّ: كانت الجاهليَّة تضيفُ النَّصَائب والنَّوائب إلى الدَّهر الذي هو مِنَ الليل والنَّهار. وَهُم في ذلك فرقتان: فِرقةٌ لا تؤمِنُ بالله ولا تعرِفُ إلَّا الدَّهر الليل والنَّهار اللَّذَين هما محَلٌّ للحوادثِ وطُرُقٌ لمساقط الأقدار، تَنْسِب المكاره إليه على أنَّها مِن فِعْلهِ ولا ترى أنَّ لها مُدَبِّراً غيره، وهذه الفِرْقة هي الدَّهريَّة الذين حكى الله عنهم في قوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. وفِرْقةٌ ثانيةٌ تعرِفُ الخالق وتنزِّهه أن تُنسب إليه المكاره فتضيفها إلى الدَّهْر والزَّمان، وعلى هذين الوجهَين كانوا يسبُّون الدَّهر ويذمُّونه، فيقول القائل منهم: يا خيبةَ الدَّهر ويا بُؤسَ الدَّهر، فقال ◙ لهم مُبْطِلاً ذلك: ((لا يَسُبنَّ أحدكم الدَّهْر فإنَّ اللهَ هو الدَّهر)) يريد _والله أعلم_: لا تَسُبُّوا الدَّهر على أنَّه الفاعلُ لهذا الصُّنْع بكم، فإنَّ الله هو الفاعل له، فإذا سَبَبْتُم الذي أنزلَ بكم المكارِه رجَعَ السبُّ إلى الله وانصرفَ إليه.
          ومعنى قوله: (أَنَا الدَّهْرُ) أي: أنا مالِكُ الدَّهر ومُصَرِّفُهُ، فحُذف اختصاراً للفظ واتِّساعاً في المعنى. وبيان هذا في حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ مِن حديثِ هِشَام بن سَعْدٍ، عن زيد بن أسْلَمَ، عن أبي صالِحٍ، عنه رفعه: ((يقول الله ╡: أنا الدَّهْرُ بيدي اللَّيلُ والنَّهار أُجِدُّهُ وأُقَلِّبُهُ وأَذْهَبُ بالملوكِ)).
          وروى عبد الرَّزَّاق عن مَعْمَرٍ، عن الزُّهْرِيِّ، عن ابن المُسَيِّب، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ رَفَعه: ((يقول الله: يُؤذِيني ابنُ آدمَ يقول: يا خيبة الدَّهْر، فلا يقولنَّ أحدكم: يا خيبةَ الدَّهْر؛ فإنِّي أنا الدَّهْر أُقلِّبه لَيلَهُ وُنُهارَهُ، فإذا شئتُ قبضتُهما)).
          وقال النَّحَّاس: يجوز فيه نصبُ الراء مِن قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ) والمعنى: فإنَّ اللهَ مقيم الدَّهْر أي: مقيمٌ أبداً لا يزولُ، وَكَمَا قال ابن الجَوْزِيِّ: كان أهل الجاهليَّة يرون أنَّ الدَّهْر هو مُهْلِكهم ولا يرونها مِن الله، كان أبو بكر بن داودَ يرويه: ((أنا الدَّهرَ)) بفتح الراء منصوبةً على الظرف أي أنا طول الدهر بيدي الأمر. قال: وهو باطِلٌ مِن ثلاثة أوجهٍ:
          أحدها: أنَّه خِلاف ضبط المحدِّثين المحقِّقين.
          ثانيها: أنِّه ورد بألفاظٍ صِحاحٍ تُبطل تأويله، منها ما عند البُخَارِيِّ: ((لا تقولوا: يا خيبةَ الدَّهر)).
          ثالثها: لو كان بالضمِّ كان اسماً مِن أسمائه تعالى، يقتضي أن يكون علَّة النَّهي لم تُذكر لأنَّه إذا قال: لا تَسُبُّوا الدَّهْر فأنا الدَّهْر أُقَلِّب الليل والنَّهار، كأنَّه يقول: لا تسبُّوا الدَّهْر فأنا أقلِّبه. وتقليبه للأشياء لا يمنع ذمَّها، وإنَّما يتوجَّهُ الأذى في قوله: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ) على ما أشرنا إليه ولم يكن ابن داودَ مِن الحفَّاظ ولا مِن علماء النَّقْل.
          قال ابن حَبِيبٍ وغيره: هذا الحديث ممَّا لا ينبغي لأحدٍ جَهْلُ وجهِه وذلك أنَّ أهل الكفر بالله والزَّنادقة يحتجُّون به على المسلمين، وتأويله عند أهل السُّنَّة ما سلف مِن قَصْدهم النِّسبة إلى الفاعل، والفاعل لها هو الله، فقال الله سبحانه: (يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ) أي: يسبُّونني، ومعنى الحديث: يظنُّ ابن آدم أنَّ الدَّهْر فعَلَ ذلك. وأنا فاعله بيدي الليل والنَّهار. إلى آخرِه.
          وقوله: (وَلاَ تَقُولُوا: خَيْبَةَ الدَّهْرِ) يريد ألَّا يتبجَّحَ في الجاهليَّة، وهو مِن معنى الحديث السالف. قال الدَّاوُدِيُّ: هو دعاءٌ على الدَّهْر بالخيبةِ، وهي كلمةٌ هذا أصلها فَصَارت تُقال لكلِّ مذمومٍ ومَن يسبُّه لِمَا يكون مِن تغيُّر أصلهِ، فلا بأس لأنَّ الذمَّ يقعُ على أصلِهِ.