التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التبسم والضحك

          ░68▒ باب التَّبَسُّمِ والضَّحكِ.
          وقالت فاطمةُ ♦: (أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلعم فَضَحِكْتُ). سلف مسنداً [خ¦3626].
          وَقَالَ ابن عبَّاسٍ ☻: (إِنَّ اللَّهَ ╡هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى).
          ثمَّ ذكر في الباب أحاديثَ كثيرةً فيها: أنَّه ◙ ضَحِكَ، وفي بعضها أنَّه تَبَسَّمَ منها:
          6084- : حديث عائِشَة ♦ في قِصَّة رِفَاعةَ، وفيه: وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلعم عَلَى التَّبَسُّمِ. وفيه: (وَابن سَعِيْدٍ بْنِ العَاصِي جَالِسٌ بِبَابِ الحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ) هو خالدُ بن سَعِيْدٍ، وفي نسخة أبي مُحَمَّدٍ، عن أبي أحمدَ: <وَسَعِيدُ بنُ العاصي> والصَّواب الأوَّل.
          6085- ومنها: حديث أبي العَبَّاس عن عُمَرَ في استئذانه وأنَّه دخلَ ورسول الله صلعم يضحكُ.
          6086- ومنها: حديث عبد الله بن عُمَر (لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِالطَّائِفِ)، وفي آخره: (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم). قال الحُمَيْديُّ: حَدَّثَنا سُفْيَان بالخبر كلِّه.
          وأبو العَبَّاس اسمُه: السَّائب بن فرُّوخٍ، الشَّاعر المكِّيُّ الأعمى. وعبد الله بن عُمَر هو ابن الخطَّاب.
          وفي مُسْلمٍ والنَّسائيِّ عن أبي العَبَّاس، عن عبد الله بن عَمْرٍو، يعني: ابن العاصي، كذا قاله خَلَفٌ الوَاسِطِيُّ. هو في البُخَارِيِّ: عبد الله بن عُمَر، وفي مُسْلمٍ: ابن عَمْرٍو.
          قال الدِّمْيَاطِيُّ: ابن العاصي أشبهُ؛ لأنَّ السَّائبَ قد روى عنه عدَّة أحاديثَ وليس عن ابن عُمَر سوى هذا الحديث على الخلاف المذكور.
          6087- ومنها: حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ في الذي وقعَ على أهلهِ في رمضانَ، أنَّه ◙ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
          و النَّواجِذُ آخِر الأسنان وهي أسنان الحُلُم عند العرب.
          6088- ومنها: حديث أَنَسٍ في قِصَّة البُردِ، وفيه: فَضَحِكَ.
          6089- 6090- ومنها: حديث جَرِيرٍ: وَلاَ رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.
          6091- ومنها: حديث أمِّ سَلَمَةَ، عن أمِّ سُلَيمٍ: (نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ المَاءَ فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أَتَحْتَلِمُ المَرْأَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: فَبِمَ يَشبَهُ الوَلَدُ؟).
          6092- ومنها: حديث عائِشَة ♦: مَا رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ صلعم مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ.
          6093- ومنها: حَدَّثَنا مُحَمَّد بن محبوبٍ: حَدَّثَنا أبو عَوَانَةَ، عن قَتَادَةَ، عن أنسٍ ☺
          وقال لي خليفةُ: حَدَّثَنا يزيدُ بن زُرَيعٍ، حَدَّثَنا سعيدٌ، عن قَتَادَة، عن أنسٍ في قِصَّة الاستسقاء: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا) وفيه: (فَضَحِكَ).
          و(مُحَمَّدُ بنُ مَحبوبٍ): هذا هو مُحَمَّد بن الحَسَن _ولقبُ الحَسَن محبوبٌ_ ابن هِلَالِ بن أبي زينبَ أبو جَعْفَرٍ، وقيل: أبو عبد الله القُرَشِيُّ البُنانيُّ البَصْرِيُّ، روى عنه البُخَارِيُّ وأبو داودَ، مات سنة ثلاثٍ وعشرين ومائتين، وروى عن رجلٍ عنه.
          فإن قلت: إنَّ حديث النَّواجِذ خِلاف ما حكته عائِشَة أنَّها لم ترهُ مُستجْمِعَاً ضاحكاً حتَّى تبدو لَهَواتُهُ، ولا تبدو النَّواجِذُ _على ما قال أبو هُرَيْرَةَ_ إلَّا عند الاستغراق في الضَّحك وظُهُور اللَّهَوات. قيل: ليس هذا بخلافٍ؛ لأنَّ أبا هُرَيْرَةَ شهد ما لم تَشهد عائِشَة وأثبتَ ما ليس في خبرها والمثبَتُ أَوْلَى، وذلك زِيَادةٌ يجب الأخذ بها.
          وليس في قول عائِشَة قطْعٌ منها أنَّه لم يَضْحك قطٌّ حتَّى تبدو لَهَواتُه في وقتٍ مِن الأوقات. وإنَّما أخبرت بما رأت، كما أخبر أبو هُرَيْرَةَ بما رأى، وذلك إخبارٌ عن وقتَين مختلفين.
          ووجه تأويل هذه الآثار _والله أعلم_ أنَّه كان ◙ في أكثر أحواله يتبسَّم، وكان أيضاً يضحكُ في أحوالٍ أُخر ضحكاً أعلى مِن التبسُّم، وأقلَّ مِن الاستغراق الذي تبدو فيه اللَّهَواتُ هذا كان شأنه ◙، وكان في النادر عند إفراط تعجُّبه ربَّما ضحكَ حتَّى تبدو نَوَاجِذه، ويجري على عادة البشر في ذلك لأنَّهُ ◙ قد قال: ((إنَّما أنا بشرٌ)) فبيَّن لأُمَّته بضحكهِ الذي بدت فيه نوَاجِذُهُ أنَّه غير محرَّمٍ على أُمَّتِهِ.
          وبانَ بحديث عائِشَة أنَّ التبسُّم والاقتصار في الضَّحك هو الذي ينبغي لأمَّتهِ فِعْله والاقتداء به فيه للزومه ◙ له في أكثر أحواله. /
          وفيه وجهٌ آخر: مِن النَّاس مَن يُسمِّي الأنياب والضَّواحك نَوَاجِذ، واستشهد بقول الشَّاعر لَبِيدٍ:
وإذا الأسنَّةُ أَسْرَعَت لنحورها                     أَبْرَزْن حَدَّ نَوَاجذِ الأنيابِ
          فتكون النَوَاجِذ: الأنيابُ على معنى إضافة الشيءِ إلى نفسهِ، وذلك جائزٌ إذا اختلف اللَّفظان، ومِن إضافة الشيء إلى نفسه قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] {وَحَبَّ الْحَصِيدِ}، وقولهم: مَسْجدُ الجامع. وقول رُؤبة:
إذا استُعِيْرَتْ مِنْ جُفون الأَغْمادْ
          والجُفُون هي الأَغْمَاد، وإضافة الشيء إلى نفسِهِ مذهب الكُوفيِّين، وقد وجدنا النَوَاجِذ يُعبَّر عنها بالأنياب في حديث المُجَامِع في رمضانَ كما سلف، ووقع في الصِّيام: ((حتَّى بَدَت أَنْيَابه)) فارتفع اللَّبس بذلك، وزال الاختلاف بين الأحاديث.
          قال ابن بطَّالٍ: وهذا الوجه أَوْلى، وهذا الباب يردُّ ما رُوي عن الحَسَن البَصْرِيِّ أنَّه كان لا يضحك. وروى جَعْفَرٌ عن أسماءَ قالت: ما رأيتُ الحَسَنَ في جماعةٍ ولا في أهلِهِ ولا وحدَه ضاحكاً إلَّا مُبتسِماً. ولا أحدٌ زهدهُ كَزُهد سيِّد الخَلْق، وقد ثبتَ عنه أنَّه ضحك. وكان ابن سِيرينَ يضحَكُ، ويحتَجُّ على الحَسَن بقول الله: {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]. وكان الصَّحابة يضحكون، وروى عبد الرَّزَّاق عن مَعْمَرٍ، عن قَتَادَة قال: سُئل ابن عُمَر ☻ هل كان أصحاب رسول الله صلعم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظمُ مِن الجبال. وفي رسول الله صلعم وأصحابه المهديِّين الأُسوةُ الحَسَنة. وأمَّا المكروه مِن هذا الباب فهو الإكثار مِن الضَّحك، كما قال لُقمان لابنه: يا بُنيَّ إيَّاك وكثرةَ الضَّحك فإنَّه يُمِيتُ القلب. فالإكثار منه وملازمته حتَّى يَغْلِب على صاحبه مذمومٌ منهيٌّ عنه، وهو مِن فِعْل أهل السَّفَهِ والبطالةِ.
          فَصْلٌ: في الإشارة إلى بعض ألفاظٍ وقعت في هذه الأحاديث:
          الذي أسرَّهُ إلى فاطمةَ أنَّها سيِّدة نِساء أهل الجَنَّة وأوَّل أهله لحوقاً به.
          و(الهُدْبَةُ) والهُدْب: ما على أطراف الثَّوب، والمراد بالذَّوق _فيه_: الإيلاجُ لا الإنزال، وبه قال العِلْماء كافَّة. وانفرد سَعِيدٌ فاكتفى بالعقد كما سلف [خ¦5259].
          وقوله: (إِيهٍ يَا ابْنَ الخَطَّابِ) هو بكسر الهمزة والهاء إذا استزدتَ الحديث، فإن وُصلتَ نُوَّنت أي: هاتِ حديثاً ما، فإذا سكَّنته وكففته قلت: إيهًا عنَّا، فإن أردت التبعيدَ قلت: أيهًا بفتح الهمزة بمعنى: هيهاتَ. قال ابن التِّين: وقرأناه بالكسر والتنوين. ولعلَّ معنى الحديث عليه: رُدَّها أنت يا ابن الخطَّاب.
          وقوله: (إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ) الفجُّ: الطَّرِيقُ الواسعُ بين الجبلين، ولم يقيِّده ابن فارسٍ بذلك، بل قال: إنَّه الطريقُ الواسِعُ. فقط.
          فَصْلٌ: (قَافِلُونَ): راجِعُون، والقُفُول: الرُّجوع مِن السَّفر.
          وقوله: (فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم: لاَ نَبْرَحُ أَوْ نَفْتَحَهَا)، ضُبط (نَفْتَحَهَا) بالرفع وصوابه النَّصب، كما ضبطَه الدِّمْيَاطيُّ خطًّا، ونبَّه عليه ابن التِّين لأنَّ أو إذا كانت بمعنى حتَّى أو إلَّا أن تَنْصب، وقرأ {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16] وكذا إذا كانت بمعنى كي، ولا يصحُّ ذلك في هذا الموضع أن تكون بمعنى كي، وإنَّما هي بمعنى حتَّى أو إلَّا. وقد قال امرؤ القَيْسِ:
فَقَلْتُ لَهُ: لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّما                     تَحَاولُ مَلْكاً أَوْ تَمُوتَ فَتُعْذَرَا
          فَصْلٌ: العَرَقُ _بفتح الرَّاء_ المِكْتَل المنسوجُ قبلَ أن يُجعل منه الزِّنْبِيل، والفرق مِكْتَلٌ يسَعُ ثلاثةَ آصُعٍ بفتح رائِه وإسكانها. واللَّابَةُ الحرَّة، وهي أرضٌ تركبُها حِجارةٌ سُودٌ، وهما حرَّتان تكتنفانِ المدينة.
          ومعنى: (بَدَتْ نَوَاجِذُهُ): ظَهَرت، واختُلف في عدد النَّواجذ وتعيُّنها: فقال الأصْمَعِيُّ: هي الأضراس، فهي على هذا عشرون. وقيل: هي أربَعٌ. ثمَّ اختلفوا فقيل: الأنياب. وقد سلف رواية: ((حتَّى بَدَتْ أنيابُهُ)) وقيل: المضاحِكُ، وهي السِّنُّ التي تُلاصق النَّابَ مِن داخل الفم، وهيِ ثنتان مِن اليمين: واحدةٌ مِن فوق، وأُخرى مِن أسفلَ. وثنتان مِن الشِّمال كذلك.
          وهذا أشهر الأقوال _كما قاله ابن التِّين_ وهو ظاهر الحديث.
          وقال أبو عبد الملك والجَوْهرِيُّ: أحد النَوَاجِذ: ناجِذٌ، وهو آخر الأضراس، ويُسمَّى ضِرْس الحُلُم لأنَّه ينبتُ بعد البلوغ وكمال العقل.
          قال الجَوْهرِيُّ: يُقال ضَحِك حتَّى بدت نَوَاجِذُهُ إذا استغرقَ فيه. ويبعُدُ حمْلُ الحديث على هذا القول.
          فَصْلٌ: اللَّهَوات: جمع لَهَى: وهي المنطبقةُ في أقصى سَقْف الفم، وتُجمع أيضاً على لُهِى ولَهَيَات، قالَه الجَوْهرِيُّ. وقال ابن فارسٍ: هي اللَّحْمة المثبوتة على الحَلْق، قال: ويُقال: بل هو أقصى الحَلْق. وقال الدَّاوُدِيُّ: هي ما دون الحنَك إلى ما يلي الحَلْق وما فوق الأضراس مِن اللَّحْم.
          فَصْلٌ: (قَحَطَ المَطَرُ): هو بفتح الحاء، وحكى الفرَّاء: كسرها. وأَقْحَط رُبَاعيٌّ. ذكره الجَوْهرِيُّ.
          وقوله: (نَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ) قال ابن فارس والجَوْهرِيُّ: نَشَأ السَّحاب إذا ارتفعَ. وقال الهَرَويُّ: أي: ابتدأ وارتفَعَ.
          وقوله: (حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ المَدِينَةِ) أي: تفجَّرت، والمثعَب: بالفتح واحد مَثَاعِب: الحِيَاض، وانثْعَبَ الماء جرَى في المَثْعَب.
          وقوله: (مَا يُقلعُ) أي: ما يرتفَعُ.
          وقوله: (ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ) سلف أنَّه ذلك الرَّجُل.
          وقوله: (حَوَالَيْنَا) هو بفتح اللام، قال الجَوْهرِيُّ: لا تقلهُ بالكسر.
          وفيه من الفقه الواضح: جواز الاستسقاء في / المسجد وعلى المنبر، وجواز الاستصحاء أيضاً.