التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الكبر

          ░61▒ بابُ الكِبْر.
          وقال مُجَاهِد: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] مُسْتكبرٌ في نَفْسِهِ، عِطْفُهُ: رقبتهُ.
          6071- ذكر فيه حديث حارِثَةَ بن وَهْبٍ الخُزَاعِيِّ ☺، عن النَّبِيِّ صلعم قال: (أَلاَ أُخْبِرُكُم بأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أخبركم بأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ).
          وهذا سلف في التفسير [خ¦4918] ويأتي في الأيمان والنذور [خ¦6657] وأخرجه مسلمٌ أيضًا، ثمَّ قال:
          6072- وقال مُحَمَّد بن عيسى: حَدَّثَنا هُشَيمٌ، أخبرنا حُمَيْدٌ الطَّويلُ، حَدَّثَنا أنسٌ قال: كانت الأمَة مِن إِمَاءِ أَهْلِ المدينة لتأخذُ بيدِ رسول الله صلعم فتنطلقُ به حَيْثُ شَاءَتْ.
          يشبهُ أن يكون أخذَهُ عن شيخه (مُحَمَّد بن عِيسَى) مُذَاكرةً، وهو ابن الطَّبَّاعِ أبو جَعْفَرٍ أخو إسحاقَ ويُوسُف، نزل أَذنَة، روى عن مالكٍ وغيره وعنه أبو داودَ والدَّارميُّ، خرَّج له النَّسائيُّ وابن ماجه أيضاً، وعلَّق له البُخَارِيُّ كما ترى، وكان حافظاً مُكثِراً فقيهاً. قال أبو داودَ: كان يحفظ نحواً مِن أربعين ألف حديثٍ. وقال أبو حاتمٍ: ثقةٌ مأمونٌ ما رأيت أحفظ منه للأبواب، مات سنة أربعٍ وعشرين ومائتين.
          وذكر الحافظُ أبو سَعِيْدٍ النَّيْسَابُورِيُّ في «شرف المصطفى» التأليف الكبير أنَّ عليَّ بن زَيْدٍ بن جُدْعَان روى عن أنسٍ ☺ قال: ((إن كانت الوليدةُ مِن ولائدِ المدينة لتجيءُ فتأخذ بيد رسول الله صلعم فتذهبُ به، فما ينزِعُ يدَه مِن يدها حتَّى تذهبَ به حيث شاءت)). وعزاه ابن بطَّالٍ إلى رواية شُعْبَة، عن عليِّ بن زَيْدٍ به، بزِيَادة: ((حتَّى تكونَ هي تَنْزِعُها)).
          قال: وروى شُعْبَة، عن أبانَ بن تَغْلِبَ، عن فُضَيلٍ الفُقَيمِيِّ، عن النَّخَعِيِّ، عن عَلْقمَةَ، عن عبد الله، عن رسول الله صلعم قال: ((لا يدخلُ الجَنَّة مَن كان في قلبهِ مِثْقَالُ ذرَّة مِن كِبْرٍ فقال رجلٌ: إنَّ الرجل ليحبُّ أن يكون ثوبُهُ حَسنٌ ونَعْلُهُ حَسَنٌ، قال: إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكِبْرُ مَن بَطَرَ الحقِّ وَغَمَصَ النَّاس)).
          وروى عبد الله بن عَمْرو بن العاصي عن رسول الله صلعم قال: ((إنَّ المستكبرين يُحشرون يوم القيامة أمثالَ الذَّرِّ على صُورة النَّاس يَطَؤهم كلُّ شيءٍ مِن الصَّغار، يُساقون حتَّى يدخلوا سِجْناً في النَّار يُسْقَون مِن طِينةِ الخَبَال عُصَارة أهل النَّار)).
          فإن قلت: فقد وصفَ ◙ العُتلَّ الجوَّاظ المستكبِر أنَّه مِن أهل النَّار، فبيِّن لنا تكبُّره، على مَن هو؟ قيل: هو الذي باطنه مُنْطوٍ على التكبُّر على الله فهذا كافرٌ لا شكَّ في كُفره، وذلك هو الكِبْر الذي عناه النَّبِيُّ صلعم بقوله في حديث ابن مَسْعُودٍ: ((لا يدخلُ الجَنَّة مَن كان في قلبهِ مِثْقالُ حبَّةٍ مِن كِبْرٍ)).
          والعُتُلُّ: الجافي الغَلِيظ، ومنه قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13] قال الفرَّاء: إنَّه الشديد الخصومةِ بالباطل. وعلى الأوَّل أهل اللُّغة.
          فإن قلت: فقد وصفت الكِبْر بغير ما وصفَهُ به رسول الله صلعم، وذلك أنَّك رُوِّيت عنه صلعم أنَّه قال: ((الكِبْر مِن سَفِهَ الحقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ وازدرى الحقَّ)) ووصفتَ أنت الكِبْر بأنَّه التكبُّر على الله.
          قيل: الكِبْر الذي وصفناه هو خِلاف خُشُوع القلب لله، ولا ينكر أن يكون مِن الكِبْر ما هو استبكارٌ على غير الله، والذي قلنا مِن معنى الكِبْر على اللهِ فإنَّه غير خارجٍ مِن معنى ما رُوِّيْنا عنه، أنَّه غَمَصَ النَّاس وازدراء الحقِّ، وذلك أنَّ معتقِدَ الكِبْر على ربِّه لا شكَّ أنَّه للحقِّ مُزْدَرٍ وللنَّاس أشدُّ استحقاراً.
          وممَّا يدلُّ على أنَّ المراد بمعنى الآثار في ذلك عن رسول الله صلعم ما رواه الطَّبَرِيُّ، عن يُونُس، عن ابن وَهْبٍ، عن عَمْرو بن الحارث أنَّ دَرَّاجاً أبا السَّمح حدَّثه، عن أبي الهيثمِ، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عن النَّبِيِّ صلعم قال: ((مَن تواضع لله درجةً رَفَعه اللهُ درجةً، ومَن يتكبَّر على الله درجةً يضعُهُ الله درجةً، حتَّى يجعلَهُ في أسفلَ سافلين)) فدلَّ هذا الحديث أنَّ غمْصَ النَّاس وحقرَ النَّاس استكبارٌ على الله.
          وقد / روى حَمَّاد بن سَلَمَةَ، عن قَتَادَة وعليِّ بن زَيْدٍ، عن سعيدِ بن المُسَيِّب، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺، عن رسول الله صلعم، فيما يحكي عن ربِّه ╡: ((الكبرياءُ ردائي، فمن نَازَعَني ردائي قَصَمته)) فالمستكبِرُ على الله لا شكُّ أنَّه مُنَازعه رداءَه، ومُفَارِقٌ دينه، وحَرَامٌ عليه جنَّته، كما قال ◙ أنَّه ((لا يدخلُها إلَّا نفسٌ مَسْلَمَةٌ)) ومَن لم يخشع لله قلبُهُ فهو عليه مستكبرٌ إذ معنى الخُشوع التواضع وخِلافه التكبُّر والتعظيم. فالحقُّ على كلِّ مكلَّفٍ إشعارَ قلبِه الخُشُوع بالذلَّة، والاستكانة له بالعبودية خوفَ أليم عقابهِ. وقد رُوي عن مُحَمَّد بن عليٍّ أنَّه قال: ما دخلَ قلبَ امرئٍ شيءٌ مِن الكِبْر إلَّا نقَصَ مِن عقله مِثْلُهُ، قلَّ ذلك أو كثُرَ.
          فَصْلٌ: يأتي تفسير العُتُلِّ والجوَّاظ في الأيمان والنُّذُور، في باب قوله الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109].
          والجوَّاظ: الرجل الجافي الغليظ. وقيل: القَصِير البَطِين. وقال الدَّاوُدِيُّ: الجواظ: الجَعْظَرِيُّ الكَثِيرُ اللَّحم العَظِيم البطنِ، الغليظ العُنُق. وقال الجَوْهرِيُّ: هو الضَّخْم المُخْتَال في مشيه، وكذا عند ابن فارسٍ والهَرَويِّ، وقال أحمد بن عُبَيْدٍ: هو الجَمُوع المَنُوع.
          فَصْلٌ: قوله: ({عِطْفِهِ}: رقبتُهُ) عبارة الجَوْهرِيِّ: عِطْفَا الرجل: جَانِبَاهُ مِن لَدُنْ رأسه إلى وَرِكَيْهِ، وثنى عنِّي عِطْفَه أي: أعرضَ.
          وقوله: (كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ) قال الدَّاوُدِيُّ: الضَّعيفُ في جسمهِ ومالهِ ولسانهِ، والمتضاعِفُ: المتواضع. وفي «الصِّحاح»: الضَّعيف في بدنهِ، والمُضعف في ذاته. وقال القزَّاز: ضَعِيفٌ في جسمه لاجتهاده في عِبَادته، قويٌّ في طاعتهِ وتصرُّفهِ.
          وقوله: (لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ) أي: لو أقسمَ عليه: لتفعلنَّ ما أحبُّ لأبرَّ قسمَه. أي: فعلَ له ما يكون بفعلهِ قد أبرَّ قسمَهُ.