التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يجوز من الهجران لمن عصى

          ░63▒ بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى.
          وَقَالَ كَعْبٌ ☺ حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (وَنَهَى النَّبِيُّ صلعم المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا، وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً). وسلف مُسنداً [خ¦4418].
          6078- وذكر بإسناده حديث عائِشَة ♦ قالت: قال رسول الله صلعم: (إِنِّي لَأَعْرِفُ غَضَبَكِ مِنْ رِضَاكِ، قَالَتْ: قلت: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَلكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّكِ إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً قُلْتِ: بَلَى وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ، لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلَّا اسْمَكَ).
          الشَّرح: (أَجَلْ): جوابٌ مثل نعم. قال الأخفشُ: إلَّا أنها أحسنُ مِن نعم في التَّصديق ونعم أحسنُ في الاستفهام. فإذا قال: سوف نذهبُ، قلت: أجل، كان أحسنَ مِن نعم، وإذا قال: أنذهب؟ قلت: نعم، كان أحسن مِن أجل. والحديث على هذا لأنَّه أخبرها بصفةِ حالها معه ولم يَسْتَفْهمها، فقالتْ: أجل.
          قال / المُهَلَّب: غرضُ البُخَارِيِّ في هذا الباب أن يبيِّنَ صِفة الهِجران الجائز، وأنَّ ذلك متنوِّعٌ على قدْرِ الإجرام، فمن كان جُرمه كبيراً فينبغي هِجرانهُ واجتنابه وتركُ مكالمته كما في أمر كعْبِ بن مالكٍ وصاحبيه. وما كان مِن المغاضَبَة بين الأهل والإخوان فالهِجران الجائزُ فيها هِجْران التحيَّةِ والتَّسمية وبَسْط الوجه، كما فَعَلت عائِشَة في مُغَاضبتها مع رسول الله صلعم.
          قال الطَّبَرِيُّ: وفي حديث كعبِ بن مالكٍ أصلٌ في هِجران أهل المعاصي والفُسُوق والبدع؛ أَلَا تَرَى أنَّه ◙ نهى عن كلامهم بتخلُّفهم عنه ولم يكن ذلك كُفراً ولا ارتداداً، وإنَّما كان معصيةً رَكِبوها فأمر بهِجرتهم حتَّى تابَ الله عليهم، ثمَّ أَذِنَ في مُرَاجعتهم. فكذلك الحقُّ في كلِّ مَن أحدث ذنباً خالفَ به أمر الله ورسوله فيما لا شُبهةَ فيه ولا تأويل، أو رَكِبَ معصيةً على عِلْمٍ أنَّها معصيةٌ لله، أن يَهْجُر غضباً لله ولرسوله ولا يُكلِّم حتَّى يتوبَ وتُعلم توبته عِلْماً ظاهراً، كما قال في قِصَّة الثلاثة الذين خُلِّفوا.
          فإن قلت: أفيحرجُ مكلِّم أهل المعاصي والبِدَع على كلِّ وجهٍ؟ قلت: أجبنا عنه فيما سلف بتفصيلٍ.
          فإن قلت: فإنَّك تبيحُ كلام أهل الشَّرْك بالله ولا توجب على المسلمين هِجرتهم، فكيف ألزمتنا هِجرة أهل البِدَع والفُسُوق وَهُم بالله ورسوله مُقرُّون؟
          قيل: إنَّ حظرنا ما حظرنا وإطلاقنا ما أطلقنا لم يكن إلَّا عن أمرِ مَن لا يسعنا خِلاف أمره، وذلك نهيه ◙ عن كلام النَّفر المتخلِّفين عن تَبُوكَ وهم بوحدانيَّةِ الله مقرُّون، وبِنُبوَّةِ نبيِّه معترفون. وأمَّا المشركون فإنَّما أطلقتُ لأهل الإيمان كلامهم؛ لإجماع الجميع على إجازتهم البيع والشراء منهم والأخذ والإعَطَاء. وقد يلزم مِن هِجرة كثيرٍ مِن المسلمين في بعض الأحوال ما لا يلزم مِن هِجْرة كثيرٍ مِن أهل الكُفْر، وذلك أنَّهم أجمعو على أنَّ رجلاً مِن المسلمين لو لزمه حدٌّ مِن حُدُود الله في غير الحَرَم ثمَّ استعاذ به أنَّه لا يُبايَع ولا يُكلَّم ولا يُجالَس حتَّى يخرجُ مِن الحَرَم فيُقام عليه حدُّ الله _كذا ادَّعاه الطَّبَرِيُّ ولا يُسلَّم له؛ فالخِلاف ثابتٌ_ ولله أحكامٌ في خَلْقه جعلها بينهم في الدُّنْيَا مصلحةً لهم، هو أعلم بأسبابها وعليهم التسليم لأمره فيها لأنَّ له الخَلْق والأمر.