التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه

          ░85▒ بَابُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ.
          وَقَوْلِهِ: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24].
          ذكر فيه أحاديث:
          6135- أحدها: حديث أبي شُرَيحٍ الكَعْبِيُّ، السالف في باب: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ) [خ¦6019].
          وأبو شُرَيح: اسمه: خُويلدُ بن عُمَر، وقيل غير ذلك، مات سنة ثمانٍ وستِّين بالمدينة، وهو مِن بني عَدِيِّ بن عَمْرو بن لُحَيٍّ أخي كعْبِ بن عَمْرٍو.
          6136- ثانيها: حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺، وسلف فيه أيضاً [خ¦6018] وكرَّره في الباب، وفي أحدهما أبو حَصِينٍ: وهو عُثْمَان بن عَاصِمٍ الأَسَديُّ الكَاهِليُّ الكُوْفيُّ، مات سنة ثمانٍ وعشرين ومئةٍ.
          6137- ثالثها: حديث أبي الخيرِ _واسمه مَرْثَدُ بن عبد الله اليَزَنيُّ، مات سنة تسعين_ عن عُقْبَة بن عامِرٍ أنَّه قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم: (إِ نْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ).
          وقد سلف الكلام على الضَّيف وجائزته [خ¦6019]. وما اختُلف فيه مِن معنى الحديث هل اليوم واللَّيلة جائزته داخِلَةٌ في الثلاث أم لا؟ وإذا قلنا بدخولها، فهل هي قبْلَ الثلاث أو بعدها؟ وهل الجائزة حُسن ضِيافته يومٌ أو يُعطى ما بعد الثلاث ما يجوز مسافةَ يومٍ وليلةٍ؟
          وروى ابن سَنْجَر أنَّه ◙ قال: ((ليلةُ الضَّيف حقٌّ على كلِّ مسلمٍ واجبةٌ، فمن أصبح بِفِنَائهِ فهو له عليه دَيْنٌ إن شاء تركَهُ أو اقتضاهُ)).
          وقد سُئل مالكٌ عن: (جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) فقال: يُكرمه ويُتْحِفُهُ يوماً وليلةً وثلاثة أيَّامٍ ضيافةً، قَسَم رسول الله صلعم أمرَه إلى ثلاثة أقسامٍ: إذا نزل به الضَّيف أتحفَهُ في اليوم الأوَّل وتكلَّف له على قَدْر وجدِه، فإذا كان اليوم الثاني قدَّم إليه ما بحضرتِهِ، فإذا جاوز مدَّة الثلاث كان مخيَّراً / بين أن يستمرَّ على وَتيرتهِ أو يُمْسِكَ، وجعله كالصَّدَقة النَّافِلة.
          فَصْلٌ: قوله: (وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ) هو بفتح أوَّلهِ وكسر الواو، والفتح في الماضي، ثوى إذا أَقَامَ، ثَوَى وأَثْوَيْتُ لغةً في ثَوَيت أي: لا يُقِيم عنده بعد الثلاث.
          وقوله: (حَتَّى يُحْرِجَهُ) أي: حتَّى يَضِيق صدْرُهُ. وأصلُ الحَرَج الضِّيق. وإنَّما كَرِه له المُقَام عنده بعد الثلاث؛ لئلَّا يَضِيق صَدْرُهُ بمقامه فتكون الصَّدقة منه على وجه المنِّ والأذى فيبطُلُ أجرهُ، قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264].
          فَصْلٌ: قوله: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) معناه: مَنْ كان إيمانه إيماناً كاملاً فينبغي أن يكون هذا حالُهُ فالضِّيافة مِن سُنن المرسلين.
          وقد سلف اختلاف العِلْماء في وجوبها، وأوجبها اللَّيثُ بن سَعْدٍ فرضاً ليلةً واحدةً، وأجاز للعبد المأذون أن يُضيف ممَّا في يده، واحتجَّ بحديث عُقْبَة في الباب.
          وقال جماعةٌ مِن أهل العِلْم: الضِّيافة مِن مكارم الأخلاق في باديتِهِ وحاضرتِهِ. وهو قول الشَّافِعِيِّ. وقال مالكٌ: ليس على أهل الحَضَر ضِيَافةٌ. وقال سُحنُون: إنَّما الضِّيافة على أهل القرى، وأما الحَضَر فالفُنْدُق ينزِلُ فيه المسافر.
          واحتجَّ اللَّيث أيضاً بقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النِّساء:148] أنَّها نَزَلَت فيمن منع الضِّيافة، فأُبيح للضَّيف لومُ مَن لم يُحسن ضيافته وذِكْر قبيح فِعْله، ورُوي ذلك عن مُجَاهِدٍ وغيره. فيُقال لهم: إنَّ الحقوق لا يُنتصَف فيها بالقول وإنَّما يُنتصف فيها بالأداء والإبراء، فلو كانت الضِّيافة واجبةً لوجب عليهم الخروج إلى القوم ممَّا لَزِمهم مِن ضيافتهم.
          وقوله: (وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) دليل أنَّ الضِّيافة ليست بفريضةٍ، والجائزة في لسان العرب: المِنْحَة والعَطيَّة. وذلك تفضُّلٌ وليس بواجبٍ.
          وأمَّا حديث عُقْبَةَ فتأويله عند جمهور العِلْماء أنَّه كان في أوَّلِ الإسلام حين كانت المواساة واجبةً، فأمَّا إذا أتى الله بالخيرِ والسَّعة فالضِّيافة مندوبٌ إليها.