التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لم يكن النبي فاحشًا ولا متفحشًا

          ░38▒ بَابُ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلعم فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا.
          6029- ذكر فيه أحاديث: أحدها: حديث عبد الله بن عَمْرٍو (ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلعم فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَقَالَ: إِنَّ مِنْ خَيْركُمْ أَحْسَنَكُمْ خُلُقًا).
          6030- ثانيها: حديث عائِشَة ♦ في السَّام.
          وقد سلف قريباً بزِيَادة بعدُ: (مَهْلًا يَا عائِشَة، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ..) وفي آخره: (فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ).
          6031- ثالثها: حديث أَنَسٍ ☺: (لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلعم سَبَّابًا وَلاَ فَحَّاشًا وَلاَ لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ المَعْتِبَةِ: مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ).
          6032- رابعها: حديث عائِشَة ♦: (بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ... فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ له).. الحديث.
          وفي آخره: (يَا عائِشَة، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاس عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ / مَنْ تَرَكَهُ النَّاس اتِّقَاءَ شَرِّهِ).
          وهذا الرجل هو مَخْرَمَةُ بن نَوْفَلِ بن أُهَيبٍ أخي وَهْبِ والد أُمَيَّة بنت وَهْبٍ ابني عبد مَنَافٍ أخي الحارث ابني زُهْرةَ بن كلابٍ والد المِسْوَر بن مَخْرَمَة، كان مِن المؤلَّفة.
          وشيخ البُخَارِيِّ فيه عَمْرو بن عيسى وهو أبو عُثْمَان الضُّبَيْعِيُّ البَصْرِيُّ، مِن أفراده.
          الشرح: الفَاحِشُ ذو الفُحْش في كلامه وأفعاله، والمُتَفَحِّش: الذي يتكلَّف ذلك ويتعمَّدُهُ.
          وقال الدَّاوُدِيُّ: الفاحِشُ: الذي مِن أخلاقه القول الفحش، وهو ما لا ينبغي مِن الكلام، والمُتَفَحِّش هو الذي يَستعمل الفُحْش فَيُضْحِك النَّاس وهو نحوه، وقال جماعةٌ مِن أهل اللغة: كلُّ شيءٍ جاوز حدَّه، وأَفْحَشَ في المنطِقِ أي: قال الفُحْش فهو فحَّاشٌ ويُفْحِشُ في كلامه، والعُنْف: ضدُّ الرِّفْق.
          وقوله: (وَالفُحْشَ) لم يكن منها إلَّا الدُّعاء عليهم بما هُم أهل لعنةِ وغَضَبِ اللهِ وهم بدؤوا بالسَّيِّئ فجازتهم.
          وَالفُحْشَ: مجاوزة القَصْد. ومنه قول الفقهاء: إذا فَحُشَ الدَّمُ على الثَّوب لم يُعفَ عنه.
          وعبارة الطَّبَرِيِّ: الفاحِشُ: البذِيءُ اللِّسان. وأصل الفُحْش عند العرب في كلِّ شيءٍ: خُرُوج الشيء عن مِقْداره وحدِّه حتَّى يُستقبح ذلك، يُقال للرجل المُفْرِط الطُّول الخارج عن حدِّ البائنِ المستحسنِ: فاحِش الطُّول، يُراد به قبيح الطول، غير أنَّ أكثر ما يُستعمل ذلك في الإنسان _إذا وُصِفَ به غير موصولٍ بشيءٍ_ في المنطق، فإذا قيل: فلانٌ فاحِشٌ، ولم يوصَل بشيءٍ فالأغلب أنَّ معناه أنَّه فاحِشٌ منطقُهُ بذيءٌ لسانُهُ، ولذلك قيل للزَّنا: فاحِشَة لقُبحه وخروجه عمَّا أباحَهُ الله لخَلْقه. وقد قيل في قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف:28] معناه: والَّذين إذا زنوا.
          قال ابن بطَّالٍ: والفُحْش والبِذَاء مذمومٌ كلُّهُ وليس مِن أخلاق المؤمنين، وقد روى مالكٌ، عن يحيى بن سَعِيْدٍ: أنَّ عيسى ◙ لَقِي خِنْزيراً في طريقٍ، فقال: انفُذْ بسلامٍ، فقيل له: تقول هذا للخِنْزير؟ فقال عيسى ابن مريمَ: إنِّي أخاف أن أعوِّد لساني المَنْطِقَ السُّوء.
          فينبغي لمن ألهمهُ الله رَشَده أن يجتنبه ويعوِّد لسانه طيِّب القول، ويقتدي في ذلك بالأنبياء فَهُم الأُسوة الحَسَنة.
          فَصْلٌ: في حديث عائِشَة ♦: أنَّه لا غِيبة لفاسِقٍ مُعْلنٍ بفسقِهِ وإن ذُكر بقبيح أفعاله.
          وفيه: جواز مُصانعةِ الفاسق وإلانَةِ القول له لمنفعةٍ تُرجَى منه.
          فَصْلٌ: قد أسلفنا أنَّ هذا الرجل هو مَخْرَمَة بن نَوْفَلٍ، قد وُجد ذلك بخطِّ الدِّمْيَاطِيِّ. وقال الدَّاوُدِيُّ: يحتمل أن يريد بذلك عُيَينةَ بن حِصْنٍ، لأنَّه الذي استأذَنَ. وصرَّح به ابن بطَّالٍ أنَّه عُيَينة الفَزَاريُّ قال: وكان سَيِّد قومهِ، وكان يُقال له الأحمق المُطَاع، فرجا ◙ بإقباله عليه أن يُسْلِم قومُه، كما رجا حين أقبلَ على المشرك وتركَ حديثه مع ابن أمِّ مكتومٍ الأعمى فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1-2] وإنَّما أقبلَ ◙ عليه بحديثه رجاءَ أن تُسلم قبيلته بإسلامه. وستكون لنا عودةٌ إليه في باب: المداراة [خ¦6131] والفَرْقُ بين المداراة والمُدَاهنة إن شاء الله تعالى.
          فَصْلٌ: في الحديث: أنَّ مَن دعى على رجلٍ بالهلاك لم يَلحق بما فيه حدٌّ وتعزيرٌ لأنَّ دعاءه غير مقبولٍ لأنَّه دعاءُ ظالمٍ، فلم يجد الدُّعاء منه مَحلاًّ كما يجد الشَّتم عِرْض المشتوم إذا أضاف الأمر القبيح إليه. وقد اسْتَعدى بنو عَجْلانَ عُمَر على النَّجَاشِيِّ الشاعر حين هَجَاهم، فقال لهم: أنشدوني ما قال فيكم؟ فأنشدوه قوله:
إذا اللهُ عَادَى أَهْلَ لؤمٍ وَرِقَّةٍ                     فَعَادى بَنِي العَجْلَانِ رَهْطَ ابن مُقْبِلِ
          فقالَ عُمَر: إن كان ظالماً فلا يُستجاب له، وإن كان مظلوماً فسوف يُستجاب له، وهذا على معنى قوله صلعم: (يُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ).
          فَصْلٌ: والمعتبة _كما قال الخطَّابيُّ_ مصدرُ عَتِبْتُ عليه أَعْتِب عَتْباً.
          وقال الجَوْهرِيُّ: وعَتَب عليه: وَجَد، يَعْتُبُ وَيَعْتِبُ عَتْبَاً وَمَعْتَباً، قال: والتَّعتُّبُ مِثلُه، والاسم المَعْتَبَة والمَعْتِبَة. قال الخليل: العِتَابُ: مخاطبةُ الإدلال ومذاكرةُ الموجَدة، تقول: عاتَبْتُهُ مُعَاتَبةً. قال الشاعر:
وَيَبْقَى الوُدُّ ما بَقِيَ العِتَابُ
          فَصْلٌ: وقوله: (تَرِبَ جَبِينُهُ) قال الخطَّابيُّ: الدُّعاء بهذا يحتمل وجهين:
          أحدهما: أن يَخِرَّ لوجههِ فيُصيبُ التَّرابُ جبينَهُ.
          والثاني: أن يكون دعاءً له بالطَّاعة ليُصلِّيَ فَيْتَرَبَ جبينُهُ، والأوَّل أشبهُ لأنَّ الجبينَ نفسَهُ لا يُصَلَّى عليه.
          قال أبو العَبَّاس: الجبينانِ: يَكْتَنفانِ الجبهةَ مِن جَنْبَيها، ومنه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]. ويحتمل ما أبداه الدَّاوُدِيُّ، وهو أنَّ هذه كلمةٌ تقولها العرب جَرَتْ على ألسنتهم، وهي من التراب، أي: سقطَ جِبِينُهُ للأرض، وربَّما قالوا: رَغِم أنفُهُ. وهو متقاربٌ وهو الاحتمال الأوَّل.
          فَصْلٌ: قوله: (بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ) أو (بِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ). كذا هنا وفي رواية مالكٍ الجزم بالثاني.
          وفيه: أنَّ مَن أظهر الجَفَاء وما لا يجب يجوز أن يُقال ذلك في غيبتهِ، ولا تكون غِيْبةً إذا جاهَرَ بذلك.
          قال الخطَّابيُّ: وهذا ما يجب عليه بيانهُ وتعريفه للنَّاس بذلك نصيحةً وشفقةً عليهم، ولكن لِمَا أُعطيه مِن حُسن الخُلُق أظهر له البشاشة ولم يواجهه بمكروهٍ لتقتدي به أُمَّته في المداراة ليَسْلَمُوا مِن الشرِّ والغَائِلة.
          ومعنى (تَطَلَّقَ فِي وَجْهِهِ) انشرح. قال الجَوْهرِيُّ: ما تَطَلَّقُ نفسي لهذا الأمر: ما تَنْشَرِح، وهو معنى وجدَه طَلْق الوجهِ، أي: طَلِيقهُ مُسْترسلٌ مُنْبَسِطٌ غير عُبُوسٍ.