التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل

          ░88▒ بَابُ قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ: لاَ آكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ.
          فيه حديث أبي جُحَيْفَةَ ☺، عن النَّبِيِّ صلعم.
          قد سلف مُسنداً قريباً في باب صُنْع الطعام [خ¦6139].
          6141- ثمَّ ذكرَ حديث عبد الرَّحمن بن أبي بكْرٍ المذكور في الباب قبله بزِيَادة: فَجَعَلُوا لاَ يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا. إلى آخرِه.
          ولا شكَّ أنَّ صاحبَ المنزل في منزله كالأمير لا ينبغي لأحدٍ أن يتقدَّم عليه في أمرٍ، يدلُّ على ذلك الحديث الصَّحيح: ((لا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سُلطانه ولا يجلس في بيتِهِ على تَكْرِمَتِه إلَّا بإذنهِ))، وهو مِن أفراد مُسلمٍ مِن حديثِ أبي مَسْعُودٍ الأَنْصَاريِّ. فكان هذا الحديث أصلاً لهذا المعنى.
          ودلَّ هذا أنَّه ينبغي للضَّيف المصير إلى ما يُجْلِسه عليه ضيفُه، ويشهد لهذا المعنى حديث أَنَسٍ ☺ أنَّ خيَّاطاً دعى رسول الله صلعم لطعامٍ فقدَّمه بين يديهِ فأكل، وأقبل الخيَّاط على عمله، وقد ترجم البُخَارِيُّ فيما سلف باب: مَن أضاف رجلاً إلى طعامٍ وأقبل هو على عملهِ، ثمَّ ذكر حديث أَنَسٍ السَّالف فيه [خ¦5435]، فدلَّ هذا الحديث أنَّ أكل صاحب الطَّعام مع الضَّيف ليس مِن الواجبات، إلَّا أنَّه جاء في حديث ضيف أبي بكْرٍ معنىً يختصُّ بخِلاف الأصل المتقدِّم، وذلك أنَّ أضيافه أقسموا ألَّا يفطروا حتَّى ينصرف مِن عند رسول الله صلعم فاحتُبس عنده إلى هَوِيٍّ مِن الليل فبقوا دون أكلٍ، وقد كان ينبغي على ظاهر الأصل السَّالف من أنَّ صاحب المنزل لا ينبغي لأحد التسوُّر عليه في منزله في أمرهم أن يُفطروا حين عرضَ عليهم الأكل ولا يأبونه، فلمَّا امتنعوا مِن ذلك وبقوا غير مُفطرين إلى إقباله، ثمَّ حنَّث نفسه في يمينه التي بَدَرت منه إيثاراً لموافقتهم لأنَّ ذلك أنَّه يجوز للضَّيف أن يخالف صاحب المنزل في تأخير الطعام وشَبهه إذا رأى لذلك وجهاً مِن وجوه المصالحة وأنَّه لا حرج عليه في ذلك، أَلَا تَرَى أنَّ الصِّدِّيق وإن كان غضِب لتأخُّر قِراهم إلى وقت قُدومه لم يُنكر عليهم يمينهم ولا قال لهم: أتيتم ما لا يجوز فِعله.
          ولا شكَّ أنَّ الصِّدِّيق أعلمَ بذلك رسول الله صلعم حين حملَ إليه بقيَّة الطعام ولم يعنِّف القوم ولا خطَّأهم في يمينهم، وهذا الذي يغلب على الوَهم لأنَّ أصحابهُ كانوا لا يُخفُون عنه كلَّ ما يعرِضُ لهم ليسنَّ لهم فيه.
          فَصْلٌ: قوله: (فَسَبَّ وَجَدَّعَ) معنى: جَدَّع مثل سبَّ لأنَّ الجَدَع: الخِصَام قال ابن فارسٍ: جَادَعْتُهُ مُجَادَعَةً: خَاصَمْتُهُ. وقال الدَّاوُدِيُّ: معناه سبَّ ابنه ودعاه بلعنهِ.
          وفي «الصِّحاح»: جَدَّعَهُ إذا قال: جَدْعَاً لك. والجدْع: قطعُ الأنف. وللشيخ أبي الحَسَن: <وَجَذعَ> / والجذع نقيضُ الصَّبر أي: لم يَصبر مِن الغيظِ.
          وقوله: (وَجَعَلُوا لَا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلَّا رَبَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا) كذا وقع غير مهموزٍ، وربا إذا كان غير مهموزٍ معناه: زاد.
          وفي «الصِّحاح»: رَبَا يَرْبُو إذا أخذه الرَّبْوُ، قال: وَرَبَوْتُ الرَّابِية: عَلَوتُها. قال: ومعنى المهموز أي: لأربأ بك عن هذا الأمر، أي: أرفعك عنه. والمعنى على هذا: ارتفعَ ما كان تحت اللُّقمة، وعلى الأوَّل رَبَا وزاد، فالمعنيان متقاربان.
          وقولها: (وَقُرَّةِ عَيْنِي) لعلَّ هذا كان قبل النَّهي عن الحَلْف بغير الله، أو لم تعلمه.
          وقوله: (فَحَلَفَتِ المَرْأَةُ لاَ تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ) قال الدَّاوُدِيُّ: يعني: حَلَفتْ للأضياف. قال: وقد يكون هذا قبل مجيء أبي بكْرٍ، والظَّاهر أنَّها حَلَفت على بعلِها أبي بكْرٍ.