التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المداراة مع الناس

          ░82▒ بَابُ المُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ.
          ويُذكَرُ عن أبي الدَّرْداءِ ☺: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ.
          6131- ثمَّ ساق حديث عائِشَة ♦: اسْتَأْذَنَ عَلَى رسول الله صلعم رجلٌ، فقال: (بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ). الحديث
          وقد سلف [خ¦6032]، وكتب الدِّمْيَاطِيُّ هنا أنَّه مَخْرَمَة بن نوفلِ بن أُهَيبِ بن عبد مَنَاف بن زُهْرةَ، والد المِسْوَر.
          6132- وحديث ابن عُلَيَّة، حَدَّثَنا أيُّوبُ، عن عبد الله بن أبي مُلَيْكَةَ ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم أُهديت له أَقْبيةٌ مِن دِيْبَاجٍ مُزرَّرةٌ بالذَّهَبِ، فقسَمَها في ناسٍ مِن أصحابه، وعزلَ منها واحداً لمَخْرَمَة، فلمَّا جاء قال: خَبَأْتُ لك هذا)). قال أيُّوبُ بثوبهِ يُريه إيَّاهُ، وكان في خُلُقهِ شيءٌ.
          ورواه حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، عن أيُّوبَ. وقال حاتمُ بنُ وَرْدَانَ: حَدَّثَنا أيُّوبُ، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن المِسْوَر: ((قَدِمتْ على النَّبِيِّ صلعم أقبيةٌ)).
          الشرح: الكَشْرُ: ظُهُور الأسنانِ للضَّحكِ، وكَاشَرَهُ: إذا ضَحِك في وجههِ وانبسطَ إليه. وعبارة ابن السِّكِّيت: الكشر: التَّبسُّم، يُقال: كَشَر الرجل وانكلَّ وافْتَرَّ وابْتَسَم، كلُّ ذلك تبدو منهُ الأسنان.
          وقوله: (لَتَلْعَنُهُمْ) كذا بخطِّ الدُّمْيَاطِيِّ مجوَّداً مِن اللَّعن، وذكره ابن التِّين بلفظ: <نَقْلِيهِم>. ثمَّ قال: أي: نَبْغَضُهُم. يُقال: قَلَاه وَيَقْلِيه قِلىً وقَلَاءً. قال ابن فارسٍ: وقد قالوا: قَلَيْتُهُ أَقْلاهُ. وفي «الصِّحاح»: يَقلاه لغة طيءٍ. وهي مِن النَّوادر، فعل يفعل بغير حَرْفِ حلقٍ، ومثله: رَكَنَ يَرْكَنُ، وأَبَى يَأْبَى، وحيى يحيى.
          ولا شكَّ أنَّ المدارةَ مِن أخلاق المؤمنين، وهي: خَفْضُ الجَنَاح للنَّاس ولِينُ الكلمة وتَرْك الإغلاظ لهم في القول، وذلك مِن أقوى أسباب الأُلفة وَسَلِّ السَّخِيمة.
          وقد رُوي عن رسول الله صلعم أنَّه قال: ((مُدَاراة النَّاسِ صَدَقةٌ)).
          قال بعض العِلْماء: وقد ظنَّ مَن لم يُنعم النَّظر أنَّ المداراةَ هي المُدَاهَنة، وذلك غلطٌ لأنَّها مندوبٌ إليها، والمداهنة محرَّمةٌ. والفرْقُ بينهما لائحٌ لأنَّ المداهنةَ اشتقَّ اسمها مِن الدِّهان الذي يَظْهر على ظواهر الأشياء ويَسترُ بواطنها، قال العِلْماء: وهي أن يَلقى الفاسق المُظْهِر لفسقهِ فيُؤالِفُهُ ويُؤاكِلُهُ ويُشَارِبُهُ، ويرى أفعالَهُ المنكرة ويُريه الرِّضا بها ولا ينكرها عليه ولو بقلبهِ. فهذهِ المُدَاهَنة التي برَّأ الله منها نبيَّهُ ◙ بقوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9].
          و(المُدَارَاةِ): هي الرِّفق بالجاهِلِ الذي يستتِرُ بالمعاصي ولا يجاهِرُ بالكبائر، والمعاجلة في ردِّ أهل الباطل إلى مراد الله بلينٍ ولُطْفٍ، حتَّى يَرْجِعوا عمَّا هُم عليه.
          فإن قلت: فما الجواب عن حديث: (بِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ) ثمَّ حدَّثه وأثنى عليه شرَّاً عند خروجه؟ قلت: كان ◙ مأموراً بألَّا يحكمَ على أحدٍ إلَّا بما ظهر منه للنَّاس، لا بما يَعْلَمُهُ هو منهم دون غيره. وكان المنافقون لا يُظهرون له إلا التَّصديق والطَّاعة، فكان الواجب عليه ألَّا يُعَامِلهم إلَّا بمِثْلِ ما أظهروا له؛ إذ لو حكم في علمهِ بشيءٍ مِن الأشياء لكانت سُنَّةً أن يحكمَ كلُّ حاكم بما اطَّلع عليه فيكون شاهداً وحاكماً. والأمَّة مُجْمِعَةٌ أنَّه لا يجوز ذلك. وقد قال ◙ في المنافقين: ((أولئكَ الَّذين نَهَى الله عن قتْلِهم)). والداخل عليه إنَّما كان يُظهر في ظاهرِ لفظهِ الإيمانَ، فقال فيه ◙ قبلَ وصولهِ إليه وبعد خروجه ما علمه منه دون أن يُظهر له في وجهه ما لو أظهرَهُ صار حُكماً.
          وأفاد بكلامِهِ ما عَلِمه منه إعلام عائِشَةَ ♦ بحاله، ولو أنَّه كان مِن أهل الشِّرْك ورجا رسول الله صلعم إيمانَهُ واستئلافَه وقومَهُ وإنابتهم إلى الإسلام، لم يكن هذا مُدَاهنةً لأنَّه ليس عليه حُكمٌ إلَّا مِن جهة الدُّعاء إلى الإسلام لا مِن جِهة الإنكار والمقاطعة، كما فعَلَ ◙ مع المشرِك الذي دخلَ عليه، وابن أمِّ مكتومٍ ليلةَ يسألَه أن يُدْنيه ويُعَلِّمه، فأقبلَ على المشركِ رجاءً منه أن يدخل في الإسلام، وتولَّى عن ابن أمِّ مكتومٍ فعاتبَهُ الله في ذلك. فبانَ أنَّه مِن رسول الله صلعم إنصافٌ أن يُظهر للإنسان ما يُظهر له ممَّا يُظهره للنَّاس / أجمعين مِن أحواله ممَّا لا يعلمون منه غيره، كما فعل بابن العشيرةِ.