التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الحياء

          ░77▒ بابُ الحَيَاءِ.
          ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
          6117- أحدها: حديث أبي السَّوَّار العَدَويِّ واسمه حسَّانُ بن حُرَيثٍ قال: سمعتُ عِمْرَان بن حُصَيْنٍ _☻_ قال: قال النَّبِيُّ صلعم: (الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ) فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: مَكْتُوبٌ فِي الحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الحَيَاءِ وَقَارًا، وَإِنَّ مِنَ الحَيَاءِ سَكِينَةً، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلعم وَتُحَدَّثَنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ.
          6118- ثانيها: حديث ابن عُمَر ☻ (مَرَّ النَّبِيُّ صلعم عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: دَعْهُ، فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ).
          6119- ثالثها: حديث قَتَادَة، عن مولى أنسٍ سمعتُ أبا سَعِيدٍ يقول: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا).
          الشرح: حديث ابن عُمَر سلف في الإيمان [خ¦24]، وحديث أبي سَعِيدٍ سلف قريبًا [خ¦3562].
          و(أبو سَعِيْدٍ): اسمه سَعْد بن مالكٍ بن سِنَان الخُدْرِيُّ، و(مَولَى أنسٍ): هذا هو عبد الله بن أبي عُتْبةَ. وقال الفَرَبْرِيُّ عن البُخَارِيِّ: <عَبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي عُتْبةَ>. وفي نسخة النَّسفيِّ عن الفَرَبْرِيِّ: <عَبدُ اللهِ> كما قدَّمناه، وهو الصَّواب، كما قاله الجيَّانيُّ.
          وكذا ذكره في كتاب الأدب وكذا الكَلَاباذِيُّ، واقتصر عليه الدِّمْيَاطِيُّ فيما رأيته بخطِّه. ونقلُ بشيرٍ هو بمعنى الحديث، وإنَّما أراد عِمْرَان أنَّ إسناده إلى رسول الله صلعم أولى لأنَّ بشيراً حدَّث عن صحيفةٍ، وعِمْرَانُ عن الشارع.
          وهذا أصلٌ أنَّ الحجَّة إنَّما هي في سنَّة رسول الله صلعم، لا فيما يُروى عن كتب الحكمة لأنَّه لا يُدرى ما في حقيقتها. /
          وفي روايةٍ عن بَشيرٍ أنَّه قال: إنَّ في الحياءِ ضَعْفاً، وعلى هذا يكون غضبُ عِمْرَان أوكدَ لمخالفته لقوله: (الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ) ولقوله للذي كان يقول لصاحبهِ: إنَّك تَسْتَحي حتَّى أضرَّ بك الحياءُ: ((دَعْهُ فإنَّ الحياءَ مِن الإيمان)). فدلَّت هذه الآثار أنَّ الحياءَ ليس بضارٍّ في حالةٍ مِن الأحوالِ ولا مذمومٍ. والحياء ممدودٌ.
          وقوله: (الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ) أي: مِن كماله، قاله أبو عبد الملك.
          وقال الهَرَويُّ: جعل الحَياء _وهو غريزةٌ_ مِن الإيمان وهو الاكتسابُ لأنَّ المُسْتَحِي ينقطعُ بحيائه عن المعاصِي وإن لم يكن له نِيَّةٌ، فصار كالإيمانِ القاطعِ بينه وبينها.
          وقوله: (إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي) قال ابن التِّين: هذا مِن استحيا بياءٍ واحدة. قال الجَوْهرِيُّ: أصله اسْتَحْيَيْتُ فأعلُّوا الياء الأوَّلى، وألقوا حركتها على الحاء فقال: اسْتَحَيْتُ استثقالًا لمَّا أُدخلت عليها الزوائد. قال سيبويه: حُذفت لالتقاء الساكنين لأنَّ الياء في الأولى تُقلب ألفاً لتحرُّكها.
          قال: وإنَّما فعلوا ذلك حيث كثُر في كلامهم. وقال المازنِيُّ: لم تُحذف لالتقاء الساكنين لأنَّها لو حُذفت لذلك لردُّوها إذا قالوا: هو يَسْتَحِي لقالوا: هو يَسْتَحِيُّ.
          وقال الأخفشُ: استحى بياءٍ واحدةٍ لغة تميمٍ، وبياءين لغة أهل الحِجَاز. وهو الأصل لأنَّ ما كان موضع لامه معتلًّا لم يُعلِّوا عينه، وإنَّما حذفوا الياء لكثرة استعمالهم لها.
          فَصْلٌ: ومعنى: (الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ) أنَّ مَن استحى مِن النَّاس أن يروه يأتي الفُجُور ويرتكبُ المحارم، فذلك باعثٌ له إلى أن يكون أشدَّ حياءً مِن ربِّه وخالقه ╡، ومَن استحيا مِن ربِّه فإن حياءَه زاجِرٌ له عن تضييع فرائضهِ وركوب معاصيهِ لأنَّ كلَّ ذي فِطرةٍ يعلم أنَّ اللهَ النافعُ له والضارُّ والرزَّاقُ والمحيي والمميتُ، وإذا عَلِم ذلك فينبغي له أن يستحي منه تعالى وهو قوله ◙: (دَعْهُ، فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ) أي: مِن أسبابه وأخلاقِ أهلهِ، وذلك أنَّه لمَّا كان الحياء يمنعُ مِن الفواحش ويحمَلُ على البرِّ والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه مِن الفُجُور ويُبعده عن المعاصي ويحملهُ على الطاعات، صار كالإيمان لمساواته له في ذلك، وإن كان الحياء غريزةً، والإيمان فعْلُ المؤمن كما سلف فاشتبها مِن هذه الجهة، وقد سلف هذا المعنى في كتاب الإيمان [خ¦24].