التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الرفق في الأمر كله

          ░35▒ باب الرِّفقِ في الأَمْرِ كلِّهِ.
          6024- ذكرَ فيه حديث عائِشَة ♦ قالت: (دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ، قَالَتْ عائِشَة ♦: فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: السَّامُ عليكم وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ ◙: مَهْلًا يَا عائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم: قَدْ قُلْتُ: عَلَيْكُمْ).
          6025- وحديث أَنَسٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ ◙: لاَ تُزْرِمُوهُ، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.
          وهذا سلف [خ¦219]، ومعنى: (لاَ تُزْرِمُوهُ) لا تَقْطَعوا عليه بوله، يُقال: زَرِمَ الدَّمع والبول بالكسر، إذا انقطَعَ، وأَزْرَمَهُ عليه، قطَعَهُ عليهِ، وأَزْرَمْتُهُ أنا، وعبارة الأصْمَعِيِّ فيما نقله أبو عُبَيدٍ: الإِزْرَامُ: القَطْع، يُقال للرجل إذا قطَعَ بوله: قد أَزْرَمْتُ بولك، وأَزْرَمَهُ غيره: قَطَعه، وزَرِمَ البولُ نفسه: انقطَعَ.
          قال الشاعر:
أَو كَمَاءِ المَثْمود بَعْدَ جِمامٍ                     زَرِم الدَّمْعِ لا يؤوبُ نَزُورا
          المَثْمودُ: الذي قد ثَمَدَهُ النَّاسُ أي: ذهبوا به فلم يبقَ منه إلَّا قليلٌ، والجِمَام: الكبير. وعبارة صاحب «العين»: زَرِمَ البولُ والدَّمع: انقطَعَ، وزَرِم السنَّور والكلب زَرَمًا إذا بَقِي جعرُه في دُبُره فهو أَزْرَمُ. وإنَّما منعهم منه لأنَّه يضرُّ حبسهُ، وقيل: لئلَّا يُنجِّسَ موضعاً آخرَ.
          وفيه: أنَّ الواردَ له قُوَّةٌ وبه يُردُّ على مَن ردَّ علينا حيث قلنا: إنَّ الماء اليسيرَ إذا اتَّصَلت به نجاسةٌ يَنْجُسُ وإن لم يتغيَّر، ونصَّ في «المدوَّنة»: أنَّه يتيمَّم والحالة هذه وهو قول الشَّافِعِيِّ، وقال بعض أصحابهم: يعني أنَّه يتوضَّأ به ويتيمَّم لا أنَّه يتركه جُملةً.
          فَصْلٌ: قال الخطَّابيُّ: فسَّروا (السَّامُ) في لسانهم: بالموت، كأنَّهم دعوا عليه بالموت. قال: وكان قَتَادَةُ يرويه: السآم بالمدِّ مِن السَّآمة والملل أي: تَسْأمون دِينكم.
          وقيل: كانوا يعنون: أماتكم الله الساعةَ، وما ذكره أنَّ السام الموت فسَّره الزُّهْرِيُّ حديث الحبَّة السَّوداء أنَّها شفاءٌ مِن كلِّ داءٍ _إلَّا السَّام_ كما سلف في البُخَارِيِّ في الطبِّ [خ¦5688]، وهو كذلك في اللُّغة، كما نصَّ عليه الجَوْهرِيُّ وغيره. واختُلف هل يأتي بالواو في الردِّ أم لا؟
          فقال ابن حَبِيبٍ: لا يأتي بها لأنَّ فيه اشتراكاً، وخالفَهُ ابن الجلَّاب والقاضي أبو مُحَمَّدٍ، وقيل: يقول: عليك السِّلام بكسر السِّين، وقال طَاوُسٌ: يردُّ: وعلاك السَّلام، أي: ارتفعَ، / وقال النَّخَعِيُّ: إذا كان لك عنده حاجةٌ تبدأ بالسلام ولا تردُّ عليه كاملاً فضيلةً وَتَكْرمةً، فلا يجب أن يُكرم كالمسلم، وسمحَ بعضهم في ردِّ السلام عليكم. واحتجَّ بقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف:89] ولو كان كما قال لكان سلاماً بالنَّصب، وإنَّما يعني بذلك على اللفظ والحكاية وأيضاً فإنَّ الآية قيل: إنَّها منسوخةٌ بآية القتال.
          فَرْعٌ: اختلف هل يُكنى اليَهُود؟ فكرهه مالكٌ ورخَّص فيه ابن عبد الحكم، واحتجَّ بقوله ◙: ((انزل أبا وَهْبٍ)).
          فَصْلٌ: في هذين الحديثَين أدبٌ عظيمٌ مِن آداب الإسلام وحضٌّ على الرِّفق بالجاهل والصَّفح والإغضاء عنه لأنَّه ◙ ترك مقابلة اليَهُود بمثل قولهم، ونهى عائِشَة عن الإغلاظ في ردِّها وقال: (مَهْلًا يَا عائِشَة، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ) أي في جميعها، وإن كان الانتصار بمثل ما قُوبل به المرء جائزٌ لقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] فالصَّبرُ أعظم أجراً وأعلى درجةً لقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] والصَّبرُ أخلاق النَّبِيِّين والصَّالحين فيجب امتثال طريقتهم والتأسِّي بهم وقَرْع النَّفْس عن المغالبة رجاءَ ثواب الله على ذلك، وكذلك رِفْقه ◙ بالأعرابيِّ الجاهل البائل في المسجد المُعظَّمِ المضاعَفِ فيه الثواب على ما سواه إلَّا المسجد الحرام، وأمر أن لا يُهاج حتَّى يفرُغ مِن بوله تأنيساً ورِفقاً به، فدلَّ ذلك على استعمال الرِّفْق بالجاهلِ وأنَّه بخِلاف العالم في ترك اللَّوم له والتثريب عليه.