التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن}

          ░58▒ بابُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]
          6066- ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ المذكور في الباب قبلَه بزِيَادة: (وَلاَ تَنَاجَشُوا) وقد سلف بيانُه.
          ذكر فيه ابن بطَّالٍ حديث أَنَسٍ أيضاً. قال الخطَّابيُّ: قوله (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ) كأنَّه أراد النَّهي عن تحقيق ظنِّ السُّوء وتصديقهِ دونَ ما يَهْجِسُ في القلب مِن خَواطر الظُّنُون فإنَّها لا تُملك. قال تعالى: ({إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]) فلم يجعل الظنَّ كلَّه إثماً. قال غيره: فنهى ◙ أن تُحقِّق على أخيك ظنَّ السُّوء إذا كان الخيرُ غالباً عليه.
          وقال الإسْمَاعيلِيُّ في «صحيحه»: إذا كان الظنُّ لدلالةٍ تدلُّ عليه، وشهادةٍ تشهد بصحَّتِهِ فذلك ما لا امتناع فيه، وعلى هذا ما رُوي في المُلاعَنة إن وضعت كذا، فلا أراه إلا مِن الذي رُميت به، وهذا مِن المباح، ولكنَّه لا يجوز تحقيقه والحكم، والممنوع منه إعمال الظنُّ وتحقيقه أيضاً.
          قلت: ورُوي عن عُمَرَ بن الخطَّاب ☺ أنَّه قال: لا يَحِلُّ لمسلمٍ سَمِعَ مِن أخيه كلمةً أن يظنَّ بها سُوءاً، وهو يجِدُ لها في شيءٍ مِن الخير مصدراً، وقال عليٌّ: مَن عَلِم مِن أخيه مروءةً جميلةً فلا يَسمعنَّ فيه مقالاتِ الرِّجال، ومَن حسُنت علانيَّتُهُ فنحن لسريرتهِ أرجا.
          وروى مَعْمَرٌ عن إسماعيلَ بن أُمَيَّة قال: ثلاثٌ لا يُعْجِزن ابن آدم: الطِّيَرةُ، وسُوء الظنِّ، والحسد. قال: فينجيك مِن سُوء الظنِّ أن لا تتكلَّم به، ويُنجِيك مِن الحسد أن لا تبغي أخاك سوءاً، ويُنجيك مِن الطِّيَرة أن لا تَعْمل بها.
          فَصْلٌ: قد أسلفت لك أنَّ حديث أَنَسٍ ☺ ذكره ابن بطَّالٍ هنا ولم نره في الأُصُول، ثمَّ أورد سؤالاً فقال: إن قلت: ليس في حديث أَنَسٍ ذكْرُ الظنِّ، فما وجه ذكره؟ ثمَّ أجاب بأنَّ التباغُضَ والتَّحاسُد أصلهما سُوء الظنِّ، وذلك أنِّ المباغِضَ والمحاسِدَ يتأوَّل أفعالَ مَن يُبغضِهُ ويحسُدُهُ على أسوأ التأويل، وقد أوجب الله أن يكون ظنُّ المؤمِن بالمؤمِن حَسَناً أبداً، إذ يقول {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، فإذا جعل الله سُوء الظنِّ بالمؤمنين إفكاً مُبيناً فقد لَزِم أن يكون حُسن الظنِّ بهم صِدْقاً بيِّناً. وتبعه في ذلك ابن التِّين. /