التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من لم يواجه الناس بالعتاب

          ░72▒ بَابُ مَنْ لَمْ يُوَاجِهِ النَّاسَ بِالعِتَابِ.
          6101- ذكر فيه حديث عائِشَة ♦ صَنَعَ النَّبِيُّ صلعم شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رسول الله صلعم، فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ؟! فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ ╡، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً).
          6102- وحديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ).
          وجه إيراد حديث عائِشَة ♦ وأنَّه خَطَب به أنَّ هذا العِتاب ولم يعيِّن فيه فاعلَهُ، وكلُّ ما جرى مِن عِتَابٍ يعمُّ الجميع ولا يعيِّنُ قائله، وهو مِن الرِّفْق والسَّتر كما أراد عُمَر حين أمر النَّاس كلَّهم بالوُضُوء يوم الجُمُعة وهو يَخْطُبُ مِن أجل الرَّجل الذي أحدثَ بين يديه، السَّتر والرِّفْق به، وليس ذلك بمنزلة أمره له بالوُضُوء مِن بينهم وحدَه في السَّتر له بعد ذلك.
          و(العَذرَاءِ): البِكْر، وتُجمع على عَذَارى وَعَذَارِي وَعَذْرَاوات.
          والخِدْر: السِّتر.
          قال ابن بطَّالٍ: وإنما كان لا يواجه النَّاس بالعِتاب، يعني على ما يكون في خاصَّةِ نفسه كالصَّبر على جهْلِ الجاهلِ وَجَفَاء الأعراب، أَلَا تَرَى أنَّه ترك الذي جَبذَ البُرْدة مِن عُنُقه حتَّى أثَّرت جَبْذتُهُ فيه لأنَّه كان لا يَنْتقم لنفسهِ. وهذا معنى حديث أبي سَعِيدٍ، فأمَّا إن انتُهكت مِن الدِّين حُرمةٌ فإنَّه لا يترك العِتاب عليها والتقريع فيها، ويَصْدَعُ بالحقِّ فيما يجبُ على مُنْتَهكها ويقتصُّ منه، وسواءٌ كان حقًّا لله أو للعباد.
          فإن قلت: فإن كان معنى حديث أبي سَعِيدٍ ما ذكرتَ مِن أنَّه كان لا يُعَاتب فيما يكون في خاصَّةِ نفسهِ، فقد واجه بالعِتاب في حديث عائِشَة وخطَبَ به.
          قلت: أسلفنا الجواب عنه، إنَّما فعل ذلك _والله أعلم_ لأنَّ كلَّ رُخصةٍ في دين الله فالعباد مخيَّرون بين الأخذِ بها والترْكِ لها.
          وكان ◙ رفيقاً بأمَّتهِ حريصاً على التَّخفيف عنهم، فلذلك خفَّف عنهم العِتاب لأنَّهم فعلوا ما يجوز لهم / مِن الأخذ بالشَّدة، وقد ترك عِتابهم مرَّةً أخرى على ترك الرُّخصة وأخذِهم بالشِّدَّة حين صاموا في السَّفر وهو مُفْطِرٌ، وإن كان قد جاء في الحديث: ((إنَّ دين الله يُسْرٌ)) كما سلف.
          قال الشَّعْبِيُّ: إنَّ الله يحبُّ أن يُعمل بِرُخَصِه كما يحبُّ أن يُعمل بِعَزائمهِ _قلت: وهو حديثٌ مرفوعٌ صحيحٌ_ فليس ذلك دليلاً على تحريم الأخْذِ بالعزائم لأنَّ ذلك لو كان حراماً لأمرَ الذين خالفوا رُخْصَته بالرجوع عن فعلهم إلى فِعْله. وفي حديث أبي سَعِيدٍ الحكم بالدَّليل لأنَّهم كانوا يعرفون كراهية رسول الله صلعم للشيء بتغيُّر وجههِ، كما كانوا يعرفون قراءته فيما أسرَّ في الصَّلَاة باضطرابِ لحيتهِ.