التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال

          ░73▒ بابُ مَن أَكْفَرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ.
          6103- ذكر فيه حديث عليٌّ بن المباركِ، عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ أنَّ رسول الله صلعم قال: (مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا).
          وقال عِكْرِمَةُ بن عمَّارٍ، عن يحيى، عن عبد الله بن يَزِيْد، سمع أبا سَلَمَةَ، سمع أبا هُرَيْرَةَ ☺، عن رسول الله صلعم.
          6104- وحديث ابن عُمَر ☻ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قال: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ).. الحديث.
          6105- وحديث ثابتِ بن الضَّحَّاك السَّالف قريباً [خ¦6047]، وفيه: (وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ).
          ░74▒ باب مَن لَمِ يرَ إِكْفَارَ مَن قَالَ ذَلَك مُتَأوِّلاً أَوْ جَاهِلَاً.
          وَقالَ عُمَر ☺ لِحَاطِبٍ: إِنَّهُ نَافَقَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعملوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ).
          6106- ثمَّ ساقَ حديث جابرٍ مِن حديثِ يزيدَ، وهو ابن هَارُونَ الوَاسطِيِّ: أخبرنا سَليمٌ _بفتح السِّين_ وهو ابن حيَّانَ الهُذَليُّ البَصْرِيُّ، حَدَّثَنا عَمْرُو بنُ دِيْنَارٍ، حَدَّثَنا جابرٌ عن مُعَاذٍ في صلاته بالبَقَرة، وَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا، فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ.. الحديثَ.
          6107- وحديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ، فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ).
          6108- وحديث ابن عُمَر ☻: أنَّه أدركَ عُمَر ☺ في رَكْبٍ وهو يَحْلِف بأبيه، فناداهم رسول الله صلعم: (أَلاَ إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ).
          والحاصل أن يفرَّق بين أن يقوله بتأويلٍ أو بدونهِ، وكذا قال الخطَّابيُّ.
          هذا إذا قاله مِن غير تأويلٍ، وإن كان المقول له مِن أهل الكُفر وإلَّا باء بها القائل، وهذا نحو تأويل البُخَارِيِّ.
          وسألَ أشهبُ مالكاً عن هذا الحديث فقال: أراهم الحَرُورِيَّةَ. قيل له: أَفَتَرَاهم بذلك كُفَّاراً؟ قال: لا أدري ما هذا.
          وحُجَّته قوله ◙: (سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) والفُسوق غير الكُفر.
          ومعنى (بَاءَ): بإثمِ رَمْيه لأخيه بالكُفر ورجع وِزْر ذلك عليه إن كان كاذباً.
          وقد رُوي هذا المعنى مِن حديثِ أبي ذرٍّ مرفوعاً: ((لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفُسُوق ولا يرميه بالكُفر إلَّا ارتدَّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)). ذكره البُخَارِيُّ في باب: ما يُنهى عنه مِن السُّباب واللَّعْن، في أوَّل الأدب [خ¦6045].
          قال المُهَلَّب: وهذا معنى تبويبه: مَن كفَّر أخاه بغير تأويلٍ فهو كما قال، أنَّ المكفِّر له هو الذي يرجِعُ عليه إثمُ التكفير لأنَّ الذي رمي بها عند الرَّامي صحيح الإيمان، إذا لم يتأوَّل عليه شيئاً يُخْرِجه مِن الإيمان، فكما هو صحيح الإيمان كصِحَّة إيمان الرامي، فقد صحَّ أنَّه أراد برميه بالكُفْر كلَّ مَن هو على دينهِ، فقد كفَّر نفسه لأنَّه على دِينهِ ومُتأوَّلِه في إيمانه، فإن استحقَّ ذلك الكُفرَ المرميَّ به استحقَّ مِثلهُ الرَّامي به غيره.
          وقد يجيبُ الفقهاء عن هذا بأن يقولوا: فقد كفرَ بحقِّ أخيه المسلم، وليس ذلك ممَّا يُسمَّى به الجاحد حقَّ أخيه كافراً لأنَّه لا يستحقُّ اسم الكفر مَن جحدَ حقَّ أخيه في برٍّ أو مالٍ.
          وقوله: (فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) هو على مذهبِ العرب في استعمالها الكِنَاية في كلامها وترك التَّصريح بالسُّوء، وهذا كقول الرَّجل لمن أراد أن يُلزمه: واللهِ إنَّ أحدنا لكاذِبٌ، وعلى هذا قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24].
          فَصْلٌ: قوله: (وَمَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ) سلف في الجنائز في باب قاتلِ النَّفْس [خ¦1363]. وسيأتي في الأيمان والنُّذُور، في باب: مَن حَلَف بملَّةٍ سوى الإسلام بما فيه كِفَايةٌ [خ¦6652].
          قال المُهَلَّب: وقوله: (فَهُوَ كَمَا قَالَ) يعني: فهو كاذِبٌ لا كافِرٌ، إلَّا أنَّه لَمَّا تعمَّد بالكذب الذي حَلَف عليه التزام الملَّة التي حَلَف بها قال ◙: (فَهُوَ كَمَا قَالَ) مِن التزام اليَهُوديَّةِ والنَّصْرَانيَّةِ. وعيد الله لمن صحَّ قصدُهُ بكذبه إلى التزام تلك الملَّة في حين كَذِبه لا في وقتٍ ثانٍ إذ كان ذلك على سبيل المكر والخديعة للمحلوف له، يبيِّنهُ قوله: ((لا يَزني الزَّاني حينَ يَزْني وهو مؤمِنٌ)) فلم ينفِ عنه الإيمان إلَّا وقتَ الزِّنا خاصَّةً، وكذلك هذا الحالفُ بملَّةٍ غير الإسلام لقيام الدَّليل على أنَّه لم يُرد نبْذَ الإسلام لتعليقه يمينه بشرط المحلوف، ولو أراد الارتداد لم يُعلِّق قوله: أنا يَهُودِيٌّ لمحلوفٍ عليه مِن معاني الدُّنْيَا؛ ولذلك قال ◙: ((مَن حلَفَ باللات والعزَّى فليقل: لا إله إلَّا الله)) خشيةً منه عليه استدامةَ حاله على ما قال وقتئذٍ فينفُذَ عليه الوعيد، فَيحْبِطَ عملهُ ويُطبع على قلبهِ لما قال مِن كلمة الكفر بعد الإيمان، فتكون كلمةً وافقت قدراً فيزيِّن له سُوء عملهِ فيراه حَسَناً، فيستديمَ على ما قالَ ويصرُّ عليه.
          وأمَّا مَن حلَفَ بملَّةٍ غير الإسلام وهو فيما حلف عليه صادقٌ، فهو تصحيحُ براءته مِن تلك الملَّة مثل أن يقول: أنا يَهُوديٌّ إن طَعِمتُ اليوم أو شربتُ. وهو صادِقٌ لم يشرب ولم يأكل، فلمَّا عقَدَ يمينه بشرطٍ هو في الحقيقة معدومٌ بعدمِ ما ربطَهُ به، وهو الأكل والشرب اللَّذَان لم يقعَا منه، لم يتعيَّن عليه / وعيدٌ يُخشى إنفاذه عليه، ولم يتوجَّهُ إليه إثمُ الملَّة التي حلَفَ عليها لعَقْدهِ نِيَّته على نفيها كنفي شَرْطها لكن لا يبرأ مِن الملامة لمخالفته لقوله: ((مَن كان حَالفاً فَلْيَحْلف بالله)).
          فَصْلٌ: سلف معنى (لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ) [خ¦6047].
          قال الطَّبَرِيُّ: يريد في بعض معناه، لا في الإثم والعقوبة، أَلَا تَرَى أنَّ القتل فيه القَوَد بخِلاف لعْنِهِ، وهو في اللُّغة: الإبعاد من الرحمة، وكذلك القتْلُ إبعادٌ للمقتول مِن الحياة التي يجبُ لها نُصرة المؤمنين وعون بعضهم لبعضٍ وقد قال ◙: ((المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيان))، وكذلك قوله: ((مَن رمى مؤمناً بكفْرٍ فهو كقتله)) لما أجمع المسلمون أنَّه لا قتْلَ عليه في رميهِ له بالكُفر، على أنَّ التشبيه إنَّما وقعَ بينهما في معنىً يجمعهما، وهو ما قلناه، وقد قال بعض العِلْماء: إنَّ معناه الحُرْمة كما ستعلمه في الأيمان والنُّذُور أيضاً.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: معنى الباب الثاني أنَّ المتأوِّلَ معذورٌ غير مأثومٍ، أَلَا تَرَى أنَّ عُمَر ☺ قال لحاطِبٍ لَمَّا كاتَبَ المشركين بخبرهِ ◙: (إِنَّه نَافَقَ) فعذره الشارع لَمَّا نسبه إلى النِّفاقِ وهو أسوأ الكفر، ولم يكفِّر عُمر بذلك مِن أجل ما جناهُ حاطِبٌ. وكذلك عذَرَ ◙ مُعَاذاً حين قال للذي خفَّف الصَّلَاة وقطَعَها خلفه: (إِنَّهُ مُنَافِقٌ) لأنَّه كان متأوِّلاً، فلم يُكفِّر مُعَاذاً بذلك. ومثله قوله حين سمع عُمَر يحلِفُ بأبيه: (إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) فلم يرَ إكفار عُمَر حين حلَفَ بأبيه، وترك الحَلْف بخالقهِ وقصد اليمين بغير الله تشريكاً لله في حقِّه، لا سيَّما على طَرَاوة عبادة غير الله، فلمَّا لم يُعرِّفه الشارع بأنَّ يمينه بغير الله ليس بكُفرٍ مِن أجل تأويلهِ أنَّ له أن يحلف بأبيه للحقِّ الذي له بالأبويَّةِ، عَذرَ عُمَرَ في ذلك لجهالته أنَّ الله لا يريد أن يُشرك معه غيره في الإيمان، إذ لا يحلف الحالف إلَّا بأعظم ما عنده مِن الحقوق، ولا أعظم مِن حقِّ الله على عبادِهِ. هذا وجه حديث عُمَر في هذا الباب.
          قال ابن بطَّالٍ: وكذلك عَذَر ◙ مَن حلَفَ مِن أصحابه باللَّات والعزَّى لقُرب عهدهم بجري ذلك على ألسنتهم في الجاهليَّة. وروي عن سعد بن أبي وَقَّاصٍ ☺ ((أنَّه حلَفَ بذلك، فأتى رسول الله صلعم فقال: يا رسول الله إنَّ العَهْد كان قريباً فَحَلفت باللَّات والعزى فقال ◙: قل لا إله إلَّا الله)). وسيأتي هذا في باب: لا يحلف باللَّات والعُزَّى، في الأيمان [خ¦6650]، وليس قوله: (مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ..) إلى آخره إطلاقٌ منه لهم على الحَلْف بذلك وكفَّارتهِ بذلك، وإنَّه ◙ أمر مَن نَسِي أو جَهِل فحلَفَ بذلك أنَّ كفَّارتهُ أن يشهد بشهادة التوحيد لأنَّه قد تقدَّم إليهم بالنَّهي عن أن يحلِفَ أحدٌ بغير الله فعذَرَ النَّاسي والجاهل. ولذلك سوَّى البُخَارِيُّ في ترجمته الجاهلَ مع المتأوِّل في سقوط الحَرَج عنه لأنَّ حديث أبي هُرَيْرَةَ في الجاهل والنَّاسي.
          فَصْلٌ: قوله: (وَقَالَ عِكْرِمَة..) إلى آخره، ذكر الإسْمَاعيلِيُّ الحافظ في «جمعه» أحاديث فقال: حَدَّثَنا القاسم بن زَكَريَّا، حَدَّثَنا محمودُ بن مُحَمَّد بن ثابتٍ، حَدَّثَنا أيُّوب بن النَّجَّار، عن عِكْرِمَةَ.. فذكره.
          فَصْلٌ: صلاة مُعَاذٍ بقومه فيه دلالةٌ على صِحَّة صلاة المفترض خلْفَ المتنفَّل، وانتصر ابن التِّين لمذهبه فقال: يحتمل أن يكون جعل صلاته مع رسول الله صلعم نافلةً، ويحتمل أن يكون لم يعلم الشارع بذلك وما أبعدَهما. وكيف يُظنُّ بمعاذٍ أن يُؤخِّر الفرض ليُصَلِّيَها بقومه ويُؤثِر النَّفْل خلْفَهُ؟ وكيف يدَّعي أنَّ الشارعَ لم يَعْلم بذلك مع أنَّه شُكِيَ إليه؟ وقال: (أفتَّانٌ أنتَ يا مُعَاذُ؟).
          فَصْلٌ: قوله: (فَتَجَوَّزَ): هو بالجيم. وقال ابن التِّين: يحتمل ذلك أي: خفَّف، ويحتمل أن يكون بالحاء أي: انحازَ وصَلَّى وحدَه.
          قلت: يُؤيِّد هذا رواية مُسلمٍ: ((فانحرفَ رجلٌ فسلَّم ثمَّ صَلَّى وحدَه ثمَّ انصرفَ)).
          لكن قال البَيْهَقِيُّ: قوله: (فَسلَّم)، لا أدري هل حفظت أم لا؟ لكثرة مَن رواه عن سُفْيَان بدونها وانفرد بها مُحَمَّد بن عبادٍ عن سُفْيَان.
          فَصْلٌ: هذه الصَّلَاة كانت العِشَاء، ولأبي داودَ والنَّسائيِّ أنَّها كانت المغرب، لكن قال البَيْهَقِيُّ: روايات العِشَاء أصحُّ.
          فَصْلٌ: احتجَّ أبو حنيفة بقوله: (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ فَهُوَ كَمَا قَالَ) إنَّ مَن قال: هو يَهُوديٌّ إن فَعَل كذا ففَعَلَ، أنَّ عليه كفَّارةَ يمينٍ، ولا حُجَّة فيه لأنَّه لم يذكرها، وعنه رواية: أنَّ ذلك رِدَّةٌ.
          فَصْلٌ: وقوله: (وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ) يحتملُ أن يريد أنَّه لَمَّا أراد إخراج المال بالباطل وأخذه بذلك أمَرَ أن يُخْرِج المال في وجه البرِّ ليكون ذلك كفَّارةً لِمَا أراد.