التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله

          ░75▒ بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ ╡.
          وَقَالَ تَعَالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73].
          ذكر فيه أحاديث:
          6109- أحدها: حديث عائِشَة: (دَخَلَ عَلَيَّ رسول الله صلعم وَفِي البَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ).. الحديثَ، وقد سلف [خ¦2479].
          وقولها: (قِرَامٌ) أي: سِترٌ فيه رَقْمٌ، و(هَتَكَهُ): أزالَهُ.
          6110- ثانيها: حديث أبي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بن عَمْرٍو البَدْرِيِّ في شكوى مُعَاذٍ. وفيه: فَمَا رَأَيْتُهُ قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ.
          6111- ثالثها: حديث نافِعٍ عن عبد الله ☺ (بَيْنَا النَّبِيُّ صلعم يُصَلِّي، رَأَى فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، فَتَغَيَّظَ).. الحديث.
          6112- رابعها: حديث زيدِ بن خالدٍ الجُهَنيِّ في اللُّقَطَة، وفيه: (فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلعم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ).
          6113- خامسها: حديث زيدِ بن ثابتٍ، وفيه: (فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَبًا)، وفي آخره: (فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاة فِي بُيُوتِكُمْ) وذكره أوَّلاً بلفظ: وقال المكِّيُّ: حَدَّثَنا عبد الله بن سَعِيْدٍ، وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن زِيَادٍ فَذَكَره.
          و(المكِّيُّ): هو ابن إبراهيم شيخُه، فلعلَّه أخذه عنه مذاكرةً، و(مُحَمَّدُ) هو أبو عبد الله مُحَمَّدُ بن زِيَاد بن عُبَيْدِ اللهِ بن الرِّبيعِ بن زِيَادٍ الزِيَاديُّ البَصْرِيُّ. قال ابن عَسَاكِرَ: / روى عنه البُخَارِيُّ كالمَقْرُون بغيره، وروى عنه ابن ماجه، مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين. كذا بخطِّ الدِّمْيَاطِيِّ، والذي في «التهذيب» في حدود سنة خمسين ومائتين.
          والنُّخامة _بالضمِّ_: النُّخاعة.
          وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ) أي: إزَاءه، وأصله الواو فقُلبت ياءً لانكسار ما قبلها. وفي رواية: ((قبل وجههِ))، وأخرى: ((قبلته)).
          والوِكاء _في حديث زيدِ بن خالدٍ_: الخيطُ.
          والعِفاصُ: الخِرْقَة. وعُكس.
          والوَجْنَة: ما ارتفع مِن الخدِّ، وفيها أربع لغاتٍ تثليث الواو وبالألف، ذكره في «الصِّحاح».
          والحِذَاءُ: ما وطئَ عليه البعير مِن خفِّه، والفرسُ مِن حافرٍ.
          و (احْتَجَرَ): في حديث زيد بن ثابتٍ: اتَّخذ شِبه الحُجْرة.
          وقوله: (مُخَصَّفَةً، أَوْ حَصِيرًا) يعني: ثوباً أو حصيراً، قطعَ به مكاناً مِن المسجد واستتر مكانه، ومنه: الخَصَفة _بالتحريك_ ما يُعمل خِلال الشيء ويكون ذلك مِن سَعَف المُقْلِ وغيره. والعرب تقول: خَصَفْت النَّعل خَصْفاً: أطبقتها في الخرْزِ بالمِخْصَفِ وهو الإِشْغاءُ، وخَصَفْتُ على نفسي ثوباً: جمعتُ بين طَرَفيه بِعُودٍ أو خيطٍ وفي التنزيل: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] عن صاحب «الأفعال».
          وغضبهُ عليهم إشفاقاً على أُمِّته أن يكتب عليهم ما لا يقومون به، وقد حكى الله عن أقوامٍ ألزموا أنفسهم طاعةً فلم يُوفوا بها فذمَّهم بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} الآية [الحديد:27].
          (وَحَصَبُوا البَابَ) أي: رموه بحَصْباءَ.
          ومعنى: (ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ): خِفْت.
          وفيه: أنَّ الفرْضَ فِعلُهُ في المسجد أفضلُ بخلاف النَّفْل خوف الرِّياء. وقيل: يجعل مِن فرضه في بيتهِ لقوله ◙: ((اجعلوا مِن صلاتكم في بيوتكم ولا تتَّخذوها قبوراً)) وهو محمولٌ على النَّافلة، واحتجَّ به أيضاً مَن قال: عليَّ المشيُ إلى مَكَّة أو مسجد المدينة أو إيلياءَ، أنَّه لا يلزمُهُ أن يصلِّيَ فيهنَّ، وهو مذهب مالكٍ، وعندنا يلزمهُ.
          ولا شكَّ أنَّ الغضب والشدَّة في أمر الله واجبانِ، وذلك مِن باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وقام الإجماع على أنَّ ذلك فرضٌ على الأئمَّة والأمراءِ أن يقوموا به، ويأخذوا على أيدي الظالمين ويُنصفوا المظلومين، ويحفظوا أمور الشريعة حتَّى لا تُغيَّر ولا تُبدَّل، أَلَا تَرَى أنَّهُ ◙ غَضِب وتلوَّنَ وجههُ لَمَّا رأى التصاوير في القِرَام وَهَتَكَه بيدهِ ونَهَى عنها، وتوعَّد عليها بقوله: ((إِنَّ أَشَدَّ النَّاس عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ)). وكذلك غضِبَ مِن أجل تطويل القراءة ونهى عنه، وتغيَّظ حين رأى النُّخامة في القِبْلة، فحكَّها بيدهِ ونهى عنها، وكذلك غَضِب حتَّى احمرَّ وجهه حين سُئل عن ضالَّة الإبل وقال: (مَا لَكَ وَلهَا) الحديث، وغَضِب على الذين صلَّوا في مسجده بصلاتهِ بغير إذنِهِ ولم يَخْرُج إليهم.
          ففيه: جوازُ الغضب للإمام والعالِمِ في التعليم والموعظة إذا رأى منكراً يجب تغييرهُ. قال مالكٌ: الأمر بالمعروف واجبٌ على جماعة المؤمنين مِن الأئمَّة والسَّلاطين، وعامَّة المؤمنين لا يَسَعهم التخلُّف عنه، غير أنَّ بعض النَّاس يحملُهُ عن بعضٍ بمنزلة الجهاد. واحتجَّ في ذلك بعض العلماء فقال: كلُّ شيءٍ يجبُ على الإنسان فعلهُ مِن الفرائض والسُّنن اللازمة، وكلُّ شيءٍ يجب عليه تركهُ مِن المحارم التي نهى الله عنها ورسوله، فإنَّه واجبٌ عليه في القياس أن يأمر بذلك مَن ضيَّع شيئاً منه، وينهى كلَّ مَن أتى شيئاً مِن المحرَّمات التي وجب عليه تركها.
          وقال بعض العِلْماء: الأمرُ بالمعروف منه فرْضٌ ومنه نافلةٌ، وكلُّ شيءٍ وجبَ عليك العمل به وجبَ عليك الأمر به، كالمحافظة على الوُضُوء، وتمام الرُّكوع والسجود، وإخراج الزكاة، وما أشبه ذلك، وما هو نافلةٌ لك فإنَّ أمرك به نافلةٌ وأنت غير آثمٍ في ترك الأمر به إلَّا عند السؤال عنه؛ لواجب النَصيحة التي هي فرضٌ على جميع المؤمنين، وهذا كلُّه عند الجمهور ما لم تَخَفْ على نفسك الأذى، فإن خِفته وجب عليك تغييره وإنكاره بقلبك، وهو أضعفُ الإيمان لأنَّ الله لا يكلِّفُ نفساً إلَّا وسعها.