شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا عطس كيف يشمت؟

          ░126▒ بابٌ إِذَا عَطَسَ كَيْفَ يُشَمَّتُ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ). [خ¦6224]
          اختلف السَّلف فيما يقول العاطس، فاختارت طائفة أن يقول: الحمد لله، على ما جاء في هذا الحديث، ورُوي ذلك عن ابن مسعود وأنس، واختارت طائفة الحمد لله رب العالمين، رُوي ذلك عن ابن عبَّاس وابن مسعود أيضًا(1)، وهو قول النَّخَغي، وأجازت(2) طائفة أن يقول: الحمد لله على كلِّ حال، رُوي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر، وقال ابن عمر: هكذا علَّمنا رسول الله صلعم.
          قال الطَّبري: والصَّواب في ذلك أنَّ العاطس مخيَّر في أيِّ هذه(3) المحامد شاء، وقد حدَّثنا محمَّد بن عُمارة حدَّثنا عَمْرو بن حمَّاد بن أبي طلحة عن عَمْرو بن قيس عن عطاء بن أبي رَبَاح عن مولى لأمِّ سلمة عن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صلعم قالت: عطس رجل في جانب بيت النَّبيِّ صلعم فقال: الحمد لله، فقال له النَّبيُّ صلعم: ((يَرْحَمُكَ اللهُ)) ثم عطس آخر، فقال: الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فقال النَّبي صلعم: ((اِرْتَفَعَ هَذَا عَلَى تِسْعَ عَشْرَةَ دَرَجَةً)).
          وقد رُوي عن النَّبيِّ صلعم كلُّ ذلك فعلَه، وفعلَه السَّلف الصَّالحون فلم ينكر بعضُهم مِن ذلك شيئًا على بعض، وقد اختُلف أيضًا في قول المشمِّت للعاطس، فقالت طائفة: يقول له يرحمك الله، يخصُّه بالدُّعاء وحدَه على ما جاء في هذا الحديث، رُوي ذلك عن أنس ورواية عن ابن مسعود، واحتجُّوا أيضًا بما(4) روى عَمْرو بن دينار عن عُبَيد بن عُمير قال: لمَّا فرغ الله تبارك وتعالى مِن خلق آدم عطس آدم، فأُلقي عليه الحمد، فقال له ربُّه تعالى: يرحمك ربُّك.
          وقالت طائفة: يعم بالتَّشميت العاطس وغيرَه، رُوي عن إبراهيم قال: كانوا يعمُّون بالتَّشميت والسَّلام، وكان الحسن يقول: الحمد لله يرحمكم الله، وقالت طائفة: يقول يرحمنا الله وإياكم، رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وسالم وإبراهيم، واختلف السَّلف أيضًا في الردِّ على المشمِّت فقالت طائفة: يقول يهديكم الله ويصلح بالكم على حديث أبي هريرة، روي ذلك عن أبي هريرة وكان الشَّعْبي يقول: يهديكم الله، وأنكرت طائفة أن يقول يهديكم الله ويصلح بالكم، واختارت أن يقول: يغفر الله لنا ولكم، رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبي وائل والنَّخَعي وهو / قول الكوفيِّين، واحتجُّوا بحديث أبي بُرْدَة بن أبي موسى عن أبيه: إِنَّ اليهود كانوا يتعاطسون عند النَّبيِّ صلعم رجاء أن يقول يرحمكم الله، فيقول: ((يَهْدِيْكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ)).
          وقال مالك والشَّافعي: إن شاء أن يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو: يغفر الله لكم، لا بأس بذلك كلِّه.
          وقال الطَّبري: لا وجه لقول مَن أنكر (يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) لأنَّ الأخبار بذلك وردت(5) عن النَّبيِّ صلعم أثبت مِن غيرِها.
          واحتجَّ الطَّحاوي لقول مالك بقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}[النساء:86]فإذا قال جواب قولِه يرحمكم الله: يغفر الله(6) لكم، فقد ردَّ مثل ما حيَّاه به، وإذا قال: يهديكم الله ويصلح بالكم، فقد حيَّاه بأحسن مما حيَّاه لأنَّ المغفرة إنَّما هي ستر الذُّنوب، والرَّحمة ترك العقاب عليها، ومَن حصلت له الهداية وكان مهديًّا كان بعيدًا مِن الذُّنوب، ومَن أصلح بالَه وسدَّد حالَه(7) فحالُه فوق حال المغفور له، فكان ذلك أولى.


[1] قوله: ((أيضاً)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((واختارت)).
[3] في (ص): ((أي ذلك)).
[4] قوله: ((بما)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((وردت)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((يرحمكم الله ويغفر)).
[7] قوله: ((وسدد حاله)) ليس في (ص).