شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال

          ░73▒ بابُ مَنْ كَفَّر أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيْلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْن عُمَر أَنَّ رسول الله(1) صلعم قَالَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا). [خ¦6103]
          وفيه: ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ). [خ¦6105]
          قال المؤلِّف: قوله ◙: (مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقْدَ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا) يعني باء بإثم رميِه لأخيه بالكفر ورجع وزر ذلك عليه إن كان كاذبًا. وقد روي هذا المعنى مِن حديث أبي ذر أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيْهِ بِالكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ)) ذكرَه البخاري في باب ما يُنهى عنه مِن السِّباب واللَّعن في أوَّل كتاب الأدب.
          قال المهلَّب: وهذا معنى تبويبِه مَن كفَّر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، أنَّ المُكَفِّرَ له هو الَّذي يرجع عليه إثم التَّكفير لأنَّ الَّذي رمى به عند الرَّامي صحيح الإيمان إذا لم يتأوَّل / عليه شيئًا يخرجُه مِن الإيمان، فكما هو صحيح الإيمان كصحَّة إيمان الرَّامي فقد صحَّ أنَّه(2) أراد برميِه له بالكفر كلَّ مَن هو على دينِه فقد كفَّر نفسَه لأنَّه على دينِه ومساوٍ له في إيمانه، فإن استحقَّ ذلك الكفر المرميَّ به استحقَّ مثله الرَّامي وغيرُه، وقد يجيب الفقهاء عن هذا بأن يقولوا: فقد كفر بحقِّ أخيه المسلم، وليس ذلك مما يُسمَّى به الجاحد بحق أخيه كافرًا(3) لأنَّه لا يستحقُّ اسم الكفر مَن جحد حقَّ أخيه في برِّ أو مال.
          وقد روى أشهب عن مالك أنَّه سُئل عن قولِه صلعم: ((مَنْ قَالَ لِأَخِيْهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ(4) أَحَدُهُمَا)) قال مالك: أراهم الحروريَّة، قيل له: أفتراهم بذلك كفَّارًا؟ قال: لا أدري ما هذا.
          والحجَّة لقول مالك قولُه صلعم: ((سِبَابُ المُؤْمِنِ(5) فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ(6))) والفسوق غير الكفر.
          وقولُه: (فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) هو على مذهب العرب في استعمالها الكناية في كلامِها وترك التَّصريح بالشرِّ، وهذا كقول الرجل لمَن أراد أن يكذِّبَه(7): والله إن أحدنا لكاذب، وعلى هذا قولُه(8) تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ:24].
          وقولُه: (مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ) قد تقدَّم معناه في كتاب الجنائز في باب قاتل النَّفس، وفي كتاب الأيمان والنُّذور في باب مَن حلف بملَّة سوى الإسلام بما فيه كفاية، لكن(9) كرهت أن أُخْلِيَ هذا الباب مِن الكلام فيه لأنِّي كثيرًا ما كنت أسأل المهلَّب عن هذا الحديث لصعوبتِه فيجيبني عنه بألفاظ وطرق مختلفة والمعنى واحد.
          فقال لي: قولُه: (فَهُوَ كَمَا قَالَ) يعني فهو كاذب لا كافر، إلا أنَّه لمَّا تعمد بالكذب الَّذي حلف عليه التزام الملَّة الَّتي حلف بها قال صلعم: (فَهُوَ كَمَا قَالَ) مِن التزام اليهوديَّة والنَّصرانيَّة وعيدًا مِنه صلعم لمَن صحَّ قصدُه بكذبِه إلى التزام تلك الملة في حين كذبِه لا(10) في وقت ثان، إذ كان ذلك على سبيل المكر والخديعة للمحلوف له.
          يبيِّن ذلك قولُه صلعم: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِيْنَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) فلم ينف عنه الإيمان إلا وقت الزِّنا خاصَّة، وكذلك هذا الحالف بملَّة غير الإسلام؛ لقيام الدَّليل على أنَّه لم يرد نبذ الإسلام بتعليقِه يمينَه بشرط المحلوف عليه، ولو أراد الارتداد لم يعلق قولَه: أنا يهودي لمحلوف عليه مِن معاني الدُّنيا.
          ولذلك قال صلعم: ((مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) خشية منه عليه استدامة حالِه على ما قال وقتئذٍ فينفذ عليه الوعيد فيحبط(11) عملُه، ويطبع على قلبِه لما(12) قال مِن كلمة الكفر بعد الإيمان، فتكون كلمة وافقت قدرًا فيزيَّن له سوءُ عملِه فيراه حسنًا، فيستديم ما قال ويصرُّ عليه.
          وأمَّا مَن حلف بملَّة غير الإسلام وهو فيما حلف عليه صادق فهو تصحيح براءتِه مِن تلك الملَّة مثل أن يقول: أنا يهودي إن طمعت اليوم أو شربت، وهو صادق لم يشرب ولم يأكل، فلمَّا عقد يمينَه بشرط هو في الحقيقة معدوم بعدم ما ربطَه به وهو الأكل والشرب اللَّذان لم(13) يقعا منه لم يتعيَّن عليه وعيد يخشى إنفاذُه عليه، ولم يتوجَّه إليه إثم الملَّة الَّتي حلف عليها لعقدِه نيَّتَه على نفيِها كنفي شرطِها، لكن لا يبرأ مِن الملامة لمخالفتِه لقوله ◙: ((مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ)).
          قال الطَّبري: وقولُه صلعم: ((لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ)) يريد في بعض معناه لا في الإثم والعقوبة، ألا ترى أنَّ مَن قتل مؤمنًا أنَّ عليه القود ومَن لعنَه لا قود عليه؟.
          واللَّعن في اللغة الإبعاد مِن الرَّحمة، وكذلك القتل إبعاد للمقتول(14) مِن الحياة الَّتي يجب بها نصرة المؤمنين وعون بعضِهم لبعض، وقد قال صلعم: ((المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)) وكذلك قولُه: ((مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ)) لمَّا أجمع المسلمون أنَّه لا قتل عليه في رميِه له بالكفر عُلم أنَّ التَّشبيه إنَّما وقع بينَهما في معنى يجمعُهما وهو ما قلناه أنَّ اللَّعن الإبعاد مِن الرَّحمة كما أنَّ القتل إبعاد مِن الحياة وإعدام منها، وقد قال بعض العلماء إنَّ معنى قولِه صلعم: (لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ) يريد في تحريم ذلك عليه، وقد ذكرتُه في كتاب الأيمان والنُّذور.


[1] في (ت) و(ص): ((النَّبي)).
[2] قوله: ((صح)) ليس في (ص).
[3] في (ت): ((بحق أخيه كافر))، وفي (ص): ((بحق أخيه المسلم كافراً)).
[4] في (ت) و(ص): ((بها)).
[5] في (ص): ((المسلم)).
[6] قوله: ((وقتاله كفر)) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ز) صورتها: ((يكرمه)) والمثبت من (ت) و (ص).
[8] في (ص): ((وهذا كقوله)).
[9] في (ت) و(ص): ((لكني)).
[10] قوله: ((لا)) ليس في المطبوع.
[11] في (ت): ((فيبطل)) ونبَّه في الحاشية إلى المثبت في نسخة.
[12] في (ت) و(ص): ((بما)).
[13] قوله: ((لم)) ليس في (ت).
[14] في (ت) و(ص): ((المقتول)).