شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين

          ░83▒ بابٌ لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ.
          وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا حُلْمَ إِلا لذِيْ تَجْرِبَةٍ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍٍ مَرَّتَيْنِ). [خ¦6133]
          قال أبو عُبيد: تأويل هذا الحديث عندنا أنَّه ينبغي للمؤمن إذا نكب مِن وجه أن لا يعود لمثلِه، وترجم له في كتاب «الأمثال» باب المحاذرة للرجل مِن الشَّيء قد ابتلي بمثلِه مرَّة.
          وفيه: أدب شريف أدَّب به النَّبي صلعم أمَّته ونبَّههم كيف يحذرون ما يخافون سوء عاقبتِه، وهذا الكلام مما لم(1) يُسبق إليه النَّبيُّ صلعم وقالَه لأبي عزَّة الشَّاعر، وكان أُسِر يوم بدر فسأل النَّبيَّ صلعم أن يمنَّ عليه وذكر فقرًا، فمَنَّ عليه النَّبيُّ صلعم وأخذ عليه عهدًا أن لا يحضِّض عليه ولا يهجوه، ففعل ثم رجع إلى مكَّة فاستهواه صفوان بن أميَّة وضمن له القيام بعيالِه، فخرج مع قريش وحضَّض على النَّبيِّ صلعم فأُسِر، فسأل النَّبيَّ صلعم أن يمُنَّ عليه، فقال ◙: ((لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ حُجْرٍ مَرَّتَيْنِ، لَا تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ وَتَقُولُ: سَخِرْتُ مِنْ محمَّد مَرَّتَيْنِ(2) ثُمَ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ)).
          وقول معاوية: لا حلم إلَّا لذي تجربة، يريد أنَّ مَن جرَّب الأمور وعرف عواقبَها وما يؤول إليه أمر مَن ترك الحلم وركب السَّفه والسِّباب مِن سوء الانتصار منه آثر الحلم وصبر على قليل مِن الأذى ليدفع به ما هو أكثر منه.
          وقال الخطَّابي: معنى قوله: (لَا حِلْمَ إِلَّا لِذِي تَجْرِبَةٍ) أنَّ المرء لا يوصف بالحلم ولا يترقَّى إلى درجتِه حتَّى يركب الأمور ويجرِّبها فيعثر مرَّة بعد أخرى فيعتبر ويتبيَّن مواضع الخطأ ويجتنبَها.
          وقال ضَمْرَة: الحلم أرفع(3) مِن العقل لأن الله تعالى تسمَّى به.


[1] في (ص): ((مما لا)).
[2] قوله: ((لا تمسح عارضيك...محمد مرتين)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((أنفع)).