شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الكبر

          ░61▒ بابُ الكِبْرِ.
          وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ثَانِي عِطْفِهِ}[الحج:9]: مُسْتَكْبِرٌ في نَفْسِهِ، عِطْفُهُ: رَقَبَتُهُ.
          فيه: حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ(1) لَوْ أَقْسَمَ على اللهِ لأبَرَّهُ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ جَوَّاْظٍ عُتُلٍّ ٍ مُسْتَكْبِرٍ). [خ¦6071]
          وفيه(2): أَنَسٌ قَالَ: (كَانَتِ الأمَةُ مِنْ(3) أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَأْخُذُ بِيَدِ النَّبيِّ صلعم فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ). [خ¦6072]
          قال المؤلِّف: روى شعبة عن عليِّ بن زيد عن أنس زيادة في هذا الحديث قال: ((إِنْ كَانَتِ الوَلِيدَةُ مِنْ وَلَائِدِ المَدِيْنَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النَّبِيِّ صلعم فَمَا يَنْزِعُ يَدَهَا مِنْ يَدِهِ حتَّى تَكُونَ هِيَ تَنْزِعُهَا)).
          وروى شعبة عن أَبَانَ بن تغلب عن فضيل الفُقَيم(4) عن النَّخَعِي عن علقمة عن عبد الله عن النَّبيِّ صلعم قال: ((لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِن الرَّجُلَ لَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُه حَسَنًا، قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ مِنْ(5) بَطَرِ الحَقِّ وَغَمْصِ النَّاسِ)).
          روى عبد الله بن عَمْرو بن العاص عن النَّبيِّ صلعم قال: ((إِنَّ المُسْتَكْبِرِيْنَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَشْبَاهَ الذَّرِّ عَلَى صُوَرِ النَّاسِ، يَعْلُوهُمُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الصَّغَار، يُسَاقُونَ حتَّى يَدْخُلُوا سِجْنًا فِي النَّارِ يُسْقَونَ مِنْ طِيْنَةِ الخَبَالِ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ)).
          قال الطَّبري: فإن قيل: فقد(6) وصف النَّبيُّ صلعم العُتُلَّ الجوَّاظ المستكبر أنه مِن أهل النَّار فَبَيِّنْ لنا تكبُّره على مَن هو؟ قيل: هو الَّذي باطنُه منطوٍ على التكبُّر(7) على الله تعالى، فهذا كافر لا شكَّ في كفره، وذلك هو الكبر(8) الَّذي عناه النَّبي صلعم(9) بقولِه في حديث ابن مسعود: ((لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ(10) مِنْ كِبْرٍ)).
          فإن قيل: فقد(11) وصفت الكِبر بغير ما وصفَه به النَّبيُّ صلعم وذلك أنَّك رويت عنه صلعم أنه قال: ((الكِبْرُ مِنْ سَفَهِ الحَقِّ وَغَمْصِ النَّاسِ وَازْدِرَاءِ الحَقِّ)) ووصفت(12) أنت الكِبر بأنه التكبَّر على الله ╡.
          قيل: الكِبر الَّذي وصفناه هو خلاف خشوع القلب لله ╡ ولا ينكر أن يكون مِن الكِبر ما هو استكبار على غير الله تعالى، والَّذي قلنا مِن معنى الكِبر على الله تعالى فأنه غير خارج مِن معنى ما روينا عنه صلعم أنه: ((غَمْصُ النَّاسِ وَازْدِرَاءُ الحَقِّ)) وذلك أنَّ معتقد الكبر على ربِّه ╡ لا شك أنه للحق مزدرٍ وللناس أشدُّ استحقارًا.
          وممَّا يدلُّ على أنَّ المراد بمعنى الآثار في ذلك عن النَّبيِّ صلعم ما قلناه ما حدَّثناه يونس عن ابن وهب عن عَمْرو بن الحارث أن درَّاجًا أبا السَّمْح حدَّثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النَّبيِّ(13) صلعم قال: ((مَنْ تَوَاضَعَ للهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللهُ دَرَجَةً، وَمَنْ يَتَكَبَّرْ عَلَى اللهِ دَرَجَةً يَضَعْهُ اللهُ دَرَجَةً حتَّى يَجْعَلَهُ(14) فِي أَسْفَلِ سَافِلِيْنَ)) فدلَّ هذا الحديث أنَّ غمص الحقِّ وحَقْر النَّاس استكبارًا(15) على الله ╡.
          وقد روى حماد بن سلمة عن قتادة وعلي(16) بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلعم فيما يحكي(17) عن ربِّه ╡ قال: ((الكِبْرِيَاءُ رِدَائِيْ فَمَنْ نَازَعَنِي رِدَائِيْ قَصَمْتُهُ)) فالمستكبر على الله تعالى لا شكَّ أنه منازعُه(18) رداءَه ومفارق دينَه وحرام عليه جنَّتُه كما قال صلعم أنه: ((لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسُ مُسْلِمَةٌ)) ومَن لم يخشع لله قلبُه فهو عليه مستكبر إذ معنى الخشوع التَّواضع وخلاف الخشوع والتَّواضع التَّكبُّر والتعظُّم، فالحقُّ لله ╡ على كلِّ مكلف إشعار قلبِه الخشوع بالذلة والاستكانة له بالعبودية خَوْفَ أليم عقابِه، وقد رُوي عن محمَّد بن علي أنه قال: ما دخل قلب امرئ شيء مِن الكبر إلا نقص مِن عقله مثلُه قلَّ ذلك أو(19) كثر.
          وقد تقدَّم تفسير العُتُلِّ والجوَّاظ في باب قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَأنهمْ}(20)[فاطر:42]في كتاب الأيمان والنذور.


[1] في (ت): ((متضاعف)).
[2] في (ت) و(ص): ((فيه)).
[3] زاد في المطبوع: ((إماء)).
[4] في المطبوع: ((الفقيمي)).
[5] قوله: ((من)) ليس في (ت) و(ص).
[6] في (ص): ((قد)).
[7] في (ص): ((الكبر)).
[8] قوله: ((الكبر)) ليس في (ص).
[9] في (ت) و(ص): ((عناه الله تعالى)).
[10] في (ت) و(ص): ((حبة)).
[11] في (ت): ((قد)).
[12] في (ت): ((وقد وصفت)).
[13] في (ت) و(ص): ((رسول الله)).
[14] في (ص): ((يجعلها)).
[15] كذا في نسخنا.
[16] في (ت) و(ص): ((وعن)).
[17] في (ص): ((حكى)).
[18] في (ت) و(ص): ((نازعه)).
[19] في (ص): ((أم)).
[20] قوله: ((في باب قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَأنهمْ})) ليس في (ت) و(ص).