شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف

          ░87▒ بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الغَضَبِ وَالجَزَعِ عِنْدَ الضَّيْفِ.
          فيه: عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي بَكْرٍ: (أَنَّ أَبَاه تَضَيَّفَ رَهْطًا، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: دُونَكَ أَضْيَافَكَ، فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إلى النَّبيِّ صلعم، فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: اطْعَمُوا، فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا؟ قَالَ: اطْعَمُوا، قَالُوا: مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا، قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ، فَإِنَّه إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ، فَأَبَوْا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ، فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ، قَالَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِي لَمَّا جِئْتَ، فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ، قَالُوا: صَدَقَ أَتَانَا بِهِ، قَالَ: فَإنَّما انْتَظَرْتُمُونِي، وَاللهِ لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ الآخَرُونَ: وَاللهِ لا نَطْعَمُهُ حتَّى تَطْعَمَهُ، قَالَ: لَمْ أَرَ في الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ وَيْلَكُمْ مَا أَنْتُمْ، أَلَا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ؟ هَاتِ طَعَامَكَ، فَجَاءَ بِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللهِ، الأولَى مِنَ الشَّيْطَانِ(1)، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا). [خ¦6140]
          قال المؤلِّف: فقه هذا الحديث أنَّه ينبغي استعمال حسن(2) الأخلاق للضَّيف وترك الضَّجر لكي تنبسط نفسُه ولا تنقبض وتسقط المؤنة والرِّقْبَة خشية أن يظنَّ أنَّ الضَّجر والغضب مِن أجلِه، فذلك(3) مِن أدب الإسلام وما يثبت المودَّة، ألا ترى أنَّ الصِّدِّيق ☺ لمَّا رأى إباءة(4) أضيافِه مِن الأكل حتَّى يأكل معهم آثر الأكل معهم وحنَّث نفسَه، وإنَّما حملَه على الحلف _والله أعلم_ أنَّه استقصر(5) ابنَه وأهلَه في القيام ببرِّ أضيافه، واشتد عليه تأخير عشائهم إلى ذلك الوقت مِن اللَّيل، فلحقه ما يلحق البشر مِن الغضب، ثمَّ لم يسعْه مخالفة أضيافِه لِمَا أبوا مِن الأكل دونَه، فرأى أنَّ مِن تمام برِّهم إسعاف رغبتِهم وترك التَّمادي في الغضب، وأخذ في ذلك بقولِه صلعم: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِيْنٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)) وكان مذهبُه ☺ اختيار الكفَّارة بعد الحنث.
          وقولُه: (بِسْمِ اللهِ، الأُوْلَى مِنَ الشَّيْطَانِ(6)) يعني اللُّقمة الأولى إخزاءٌ للشَّيطان لأنَّه(7) الَّذي حملَه على الحلف وسوَّل له أن لا يأكل مع أضيافِه، وباللُّقمة الأولى وقع الحنث وبها وجبت الكفَّارة.
          وقد تقدَّم تفسير قولِه: (يَا غُنْثَرْ) في كتاب الصَّلاة في الجزء الثاني في باب السَّمر مع الضَّيف والأهل ومرَّ هناك شيء مِن معاني الحديث وسيأتي في الباب بعد هذا شيء مِن ذلك إن شاء الله تعالى(8).


[1] في (ص): ((الأولى للشيطان)).
[2] في (ص): ((أحسن)).
[3] في (ز): ((فلذلك)) والمثبت من (ص).
[4] في (ز): ((إبانة)) والمثبت من (ص).
[5] في (ص): ((استنقص)).
[6] في (ص): ((الأولى للشيطان)).
[7] زاد في (ص): ((هو)).
[8] في (ص): ((في باب السمر مع الضيف، وسيأتي بعد)).