شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ستر المؤمن على نفسه

          ░60▒ بابُ سَتْرِ المُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِيْنَ(1)، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ عَمَلًا بِاللَّيْلِ ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ ويُصْبِحُ(2) يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عليه). [خ¦6069]
          وفيه: ابْنَ عُمَرَ: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ في النَّجْوَى؟ قَالَ: يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ(3): إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ في الدُّنيا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ). [خ¦6070]
          قال المؤلِّف: ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: ما ستر الله على عبد في الدُّنيا إلا ستر عليه في الآخرة، وهذا مأخوذ مِن حديث النَّجوى.
          وقال ابن عبَّاس في قولِهِ تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[لقمان:20]قال: أمَّا الظَّاهرة فالإسلام(4) وما حسُن مِن خلقك وأفضل عليك مِن الرزق، وأمَّا الباطنة فما ستر عليك مِن الذُّنوب والعيوب. وفي ستر المؤمن على نفسِه منافع.
          مِنها: أنَّه(5) إذا اختفى بالذَّنب عن العباد لم يستخِفُّوا به ولا يستذلوه(6)؛ لأنَّ المعاصي تذلُّ أهلَها.
          ومِنها: أنه إن كان ذنبًا يوجب الحدَّ سقطت عنه المطالبة في الدُّنيا.
          وفي المجاهرة بالمعاصي استخفاف بحق(7) الله ╡ وحق رسوله صلعم وضرب من العناد لهما(8) فلذلك قال صلعم: ((كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إِلَّا المُجَاهِرُينَ(9))).
          قال المهلَّب: وأمَّا قولُه في حديث النَّجوى: ((يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ)) فقال ابن فورك: معناه يقرب مِن رحمتِهِ وكرامتِهِ ولطفِهِ لاستحالة حملِه على قرب المسافة والنَّهاية، إذ لا يجوز ذلك على الله تعالى لأنه لا يحويه مكان ولا يحيط به موضع، ولا تقع عليه الحدود، والعرب تقول: فلان قريب مِن فلان يريدون به(10) قرب المنزلة وعلوَّ الدَّرجة عنده.
          وأمَّا قولُهُ: (فَيَضَعُ الجَبَّارُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ) فأنه يبيِّن ما أشرنا إليه في معنى الدُّنوِّ أنه على تأويل قرب المنزلة والدَّرجة، وذلك أنَّ لفظ الكنف إنَّما يستعمل في مثل هذا المعنى، ألا ترى أنه يقال: أنا في كنف فلان إذا أراد أن يعرف إسباغ فضلِه عليه وتوقيرِه عندَه.
          وقال المهلَّب: عبَّر ◙ بالكنف عن ترك إظهار(11) جرمِهِ للملائكة وغيرِهم بإدامة السَّتر الَّذي مَنَّ به على العبد في الدُّنيا، وجعلَه سببًا لمغفرتِه(12) في الآخرة، ودليلًا للمذنب على عفوِه، وتنبيهًا له على نعمة الخلاص(13) مِن فضيحة الدُّنيا وعقوبة الآخرة الَّتي هي أشدُّ مِن عقوبة الدُّنيا، لقولِه تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}[طه:127]فيشكر ربَّه ويذكر(14)، وهذا الحديث كقولِه تعالى: ((إِنَّ رَحْمَتِيْ سَبَقَتْ غَضَبِيْ)) لأنَّ تأخير غضبِه عنه عند مجاهرتِهِ(15) ربَّه بالمعصية، وهو يعلم أنه لا تخفى عليه(16) خافية ممَّا يُعْلَمُ بصحيح النَّظر أنه لم يؤخِّر عقوبتَه عنه لعَجْزٍ عن إنفاذِها عليه إلا لرحمتِهِ الَّتي حكم لها بالسَّبق لغضبِه؛ إذ ليس مِن صفة رحمتِه الَّتي وسعت كلَّ شيء أن تُسْبَقَ في الدُّنيا بالسَّتر مِن الفضيحة ويسبقَها الغضب في ذلك الذنب في الآخرة، فإذا لم يكن بدٌّ مِن تغليب الرَّحمة على الغضب فَلِيُبَشَّرَ المذنبون المستترون بسعة رحمة الله، وليحذر المجاهرون بالمعاصي مِن وعيد الله النافذ على مَن شاء مِن عبادِه.
          وفي قولِه ╡: (سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ) نصٌّ مِنه تعالى على صحة قول أهل السنَّة في ترك إنفاذ الوعيد على العصاة مِن المؤمنين، والحجَّة فيه مِن طريق النَّظر أنه ليس مذمومًا مَن وجب له حق على غيرِه فوهبَه له، والمرء قد يقول لعبدِه: إن صنعت كذا عاقبتك بكذا على معنى أنَّك إن أتيت هذا الفعل كنت مستحقًا(17) عليه هذه المعاقبة، فإذا جنى العبد تلك الجناية كان السيد مخيرًا في حق نفسِه إن شاء أمضاه وإن شاء تركَه، وإذا قال: إن فعلت كذا وكذا فلك عليَّ كذا وكذا ففعل ما كلَّفَه لم يجز أن يخلفَه بما وعدَه لأنَّ في تمام الوعد حقًّا للعبد، وليس لأحد أن يدع حقَّ غيرِه كما له أن يدع حقَّ نفسِه. والعرب تفتخر بخلف الوعيد، ولو كان مذمومًا لما جاز أن تفتخر بخلفِه وتمتدح به، أنشد أبو عَمْرو الشَّيباني:
وَإِنِّي مَتَى أَوْعَدْتُه أَوْ وَعَدْتُهُ(18)                     لمُخْلِفُ إِيْعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي /
          قال المهلَّب: فإنْ أَخَذَ الله المُنفذِين للوعيد بحكمهم أنفذَه عليهم دون غيرِهم لقَطْعِهم على الله تعالى الواسعِ الرَّحمةِ بإنفاذِهِ الوعيدَ لظنِّهم بالله ظنَّ السَّوء فعليهم دائرة السَّوء، وكان لهم عند ظنِّهم كما وعد فقال: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)).


[1] في (ت) و(ص): ((المجاهرون)).
[2] في (ت) و(ص): ((فيصبح)).
[3] في (ت) و(ص): ((فيقرره فيقول)).
[4] في (ت): ((الظاهر فالإسلام))، في المطبوع: ((الظاهرة بالإسلام)).
[5] في (ت): ((أنها)) وليس في (ص).
[6] في (ت) و(ص): ((استذلوه)).
[7] في (ت): ((لحق)).
[8] في (ص): ((لهم)).
[9] في (ت) و (ص): ((المجاهرون)).
[10] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[11] في (ت) و(ص): ((إظهاره)).
[12] زاد في (ت) و(ص): ((له)).
[13] في (ت) و(ص): ((الإخلاص)).
[14] قوله: ((ويذكر)) ليس في (ت) و(ص).
[15] في (ت) و(ص): ((مجاهرة)).
[16] في (ت) و(ص): ((عنه)).
[17] في (ت) و(ص): ((الفعل عاقبتك)).
[18] في (ت): ((لو وعدته))، (ص): ((ووعدته)).