شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التبسم والضحك

          ░68▒ بابُ التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ.
          وقالت فاطمة: (أَسَرَّ إليَّ النَّبيُّ صلعم فَضَحِكْتُ).
          ذكر في هذا الباب أحاديث كثيرة فيها أنَّ النَّبيَّ صلعم ضحك، وفي بعضها أنَّه تبسَّم، وذكر حديث عائشة قالت: ((مَا رَأَيْتُ النَّبيَّ صلعم مُسْتَجْمِعًا قَطُّ ضَاحِكًا حتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إنَّما كَانَ يَتَبَسَّمُ(1))).
          وحديث(2) أبي هريرة في الَّذي وقع على أهله في رمضان: ((أَنَّهُ صلعم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ)) والنَّواجذ آخر الأسنان، وهي أسنان الحلم عند العرب.
          فإن قيل: إنَّ هذا خلاف لما حكتْه(3) عائشة: ((أَنَّها لَمْ تَرَهُ ◙ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا(4) قَطُّ حتَّى تَبْدُوَ لَهَوَاتُهُ)) ولا تبدو النَّواجذ على ما قال أبو هريرة إلا عند الاستغراق في الضَّحك وظهور اللهوات.
          قيل: ليس هذا بخلاف لأنَّ أبا هريرة شهد ما لم تشهد عائشة وأثبت ما ليس في خبرِها والمثبت أولى، وذلك(5) زيادة يجب الأخذ بها، وليس في قول عائشة قطعٌ منها أنَّه لم يضحك قطُّ حتَّى تبدو لهواتُه في وقت مِن الأوقات، وإنَّما أخبرت بما رأت كما أخبر أبو هريرة بما رأى، وذلك إخبار عن وقتين مختلفين.
          ووجه تأويل هذه الآثار _والله أعلم_ أنَّه كان ◙ في أكثر أحواله يتبسَّم(6)، وكان أيضًا يضحك في أحوال أُخر ضحكًا أعلى من التَّبسم وأقلَّ مِن الاستغراق الَّذي تبدو فيه اللهوات، هذا كان شأنُه صلعم، وكان في النَّادر عند إفراط تعجُّبه ربَّما ضحك حتَّى تبدو نواجذُه، ويجري على عادة البشرِ في ذلك لأنَّه صلعم قد قال: ((إِنَّما أَنَا بَشَرٌ)) فبيَّن لأمتِه بضحكِه الَّذي بدت فيه نواجذُه أنَّه غير محرَّم على أمَّتِه، وبان بحديث عائشة أنَّ التَّبسُّم والاقتصار في الضَّحك هو الَّذي ينبغي لأمَّته فعلُه والاقتداء به فيه للزومِه صلعم له في أكثر أحوالِه.
          وفيه وجه آخر مِن النَّاس من يسمِّي الأنياب الضَّواحك نواجذ واستشهد بقول لَبِيد:
وإذَا الأَسِنَّةُ أُشْرِعَتْ لِنُحُورِهَا                     أَبْرَزْنَ حَدَّ نَوَاجِذِ الأَنْيَابِ
          فتكون النَّواجذ الأنياب على معنى إضافة الشيء إلى نفسِه، وذلك جائز إذا اختلف اللَّفظان، كما يجوز عطف الشيء على نفسِه إذا اختلف اللفظان، ومِن إضافة الشَّيء إلى نفسِه قوله ╡: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16]{وَحَبَّ الْحَصِيدِ}[ق:9]، وقولُهم: مسجد الجامع، وقال رُؤْبَة:
إذَا استعبرت(7) مِن جُفُونِ الأَغْمَادِ
          والجفون هي الأغماد، وإضافة الشَّيء إلى نفسِه مذهب الكوفيِّين، وقد وجدنا أنَّ النَّواجذ يعبَّر عنها بالأنياب في حديث(8) الَّذي وقع على أهلِه في رمضان وقع في هذا الباب: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) ووقع في كتاب الصيام في هذا الحديث: ((أَنَّهُ ◙ ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ)) فارتفع اللَّبس بذلك وزال الاختلاف بين الأحاديث، وهذا الوجه أولى، والله أعلم.
          وهذا الباب يردُّ ما رُوي عن الحسن البصري أنَّه كان لا يضحك، وروى جعفر عن أسماء قالت: ما رأيت الحسن في جماعة ولا في أهلِه ولا وحدَه ضاحك قطُّ إلا متبسِّمًا.
          ولا أحد زهد كزهد النَّبيِّ صلعم وقد ثبت عنه أنَّه ضحك، وكان ابن سيرين يضحك ويحتجُّ على الحسن ويقول: الله هو الَّذي أضحك وأبكى.
          وكان الصَّحابة يضحكون، وروى عبد الرواق عن معمر عن قتادة قال: سُئل ابن عُمر هل(9) كان أصحاب النَّبيِّ صلعم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم مِن الجبال، وفي رسول الله صلعم وأصحابه المهديِّين(10) الأسوة الحسنة.
          وأمَّا المكروه مِن هذا الباب فهو الإكثار مِن الضَّحك كما قال لقمان لابنه: يا بني إيَّاك وكثرة الضَّحك فإنَّه يميت القلب، / فالإكثار(11) منه وملازمتُه حتَّى يغلب على صاحبِه مذموم منهيٌّ عنه، وهو مِن فعل أهل السَّفَه والبطالة.


[1] في (ت): ((تبسم)).
[2] في (ت) و(ص): ((وفي حديث)).
[3] في (ت) و(ص): ((روته)).
[4] في (ت) و(ص): ((ضحكاً)).
[5] في (ت): ((ذلك)).
[6] في (ت): ((يبتسم)).
[7] كذا في نسخنا والمطبوع: ((استعبرت)) ولعل الصواب: ((استُطِيرت)) كما في كتب اللغة.
[8] في (ت) و(ص): ((بالأنياب وحديث)).
[9] قوله: ((هل)) ليس في (ص).
[10] في (ت) و(ص): ((المهتدين)).
[11] في (ت): ((والإكثار)).