شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله

          ░75▒ بابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الغَضَبِ والشِّدَّةِ فِي أَمْرِ اللهِ.
          وقالَ اللهُ ╡(1): {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التحريم:9].
          فيه: عَائِشَةُ: (دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ صلعم وفي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ، وَقَالَتْ(2): قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: مِنْ أَشَدِّ النَّاس عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ). [خ¦6109]
          وفيه: أَبُو مَسْعُودٍ: (أَتَى رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ(3) صلعم، فَقَالَ: إِنِّي أتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا في مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاس فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ). [خ¦6110]
          وفيه: ابْن عُمَر: (بَيْنَما النَّبيُّ صلعم يُصَلِّي رَأَى في قِبْلَةِ / الْمَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِيَدِهِ فَتَغَيَّظَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ في الصَّلاة فَإِنَّ اللهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ في الصَّلاة). [خ¦6111]
          وفيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبيَّ صلعم عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً...، إلى قولِهِ: فَضَالَّةُ الإبِلِ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلعم حتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ). [خ¦6112]
          وفيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: (احْتَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم حُـَجَيْرَةً مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيرًا، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُصَلِّي فِيهَا، فَتَتَبَّعَ(4) رِجَالٌ وَجَاؤُوا يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، ثُمَّ جَاؤُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إليهم، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إليهم مُغْضَبًا...) الحديثَ. [خ¦6113]
          قال المؤلِّف: الغضب والشِّدَّة في أمر الله تعالى واجبان وذلك مِن باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وأجمعت الأمَّة على أنَّ ذلك فرض على الأئمة والأمراء أن يقوموا به، ويأخذوا على أيدي الظَّالمين وينصفوا المظلومين ويحفظوا أمور الشَّريعة حتَّى لا تُغيَّر ولا تبدَّل، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم غضب وتلوَّن وجهُه لما رأى التَّصاوير في القِرام وهتكَه بيدِه ونهى عنها(5)، وقال: (إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِيْنَ يُصَوِّرُونَ(6)) وكذلك غضب مِن أجل تطويل الرَّجل في صلاتِه بالنَّاس ونهى عن ذلك، وتغيَّظ حين رأى النُّخامة في القبلة فحكَّها بيدِه ونهى عنها، وكذلك غضب حتَّى احمرَّ وجهُه حين سئل عن ضالَّة الإبل وقال: ((مَا لَكَ وَلَهَا...)) الحديث، وغضب ◙ على الَّذين صلُّوا في مسجدِه بصلاتِه بغير إذنِه ولم يخرج إليهم، ففيه مِن الفقه جواز الغضب للإمام والعالم في التَّعليم والموعظة إذا رأى منكرًا يجب تغييرُه.
          وقال مالك: الأمر بالمعروف واجب على جماعة المؤمنين مِن الأئمَّة والسَّلاطين وعامَّة المؤمنين لا يسعُهم التَّخلُّف عنه، غير أنَّ بعض النَّاس يحملُه عن بعض بمنزلة الجهاد، واحتجَّ في ذلك بعض العلماء فقال: كلُّ شيء يجب على الإنسان فعلُه مِن الفرائض والسُّنن اللَّازمة، وكلُ شيء يجب(7) عليه تركُه مِن المحارم الَّتي نهى الله عنها ورسولُه فإنَّه واجب عليه في القياس أن يأمر بذلك مَن ضيَّع شيئًا منه، وينهى كلَّ مَن أتى شيئًا مِن المحرمات الَّتي وجب عليه تركُها.
          وقال بعض العلماء: الأمر بالمعروف منه فرض ومنه نافلة، فكلُّ شيء وجب عليك(8) العمل به وجب عليك(9) الأمر به كالمحافظة على الوضوء وتمام الرُّكوع والسُّجود وإخراج الزَّكاة وما أشبه ذلك، وما كان نافلة لك فإنَّ أمرك به نافلة وأنت غير آثم في ترك الأمر به إلا عند السُّؤال عنه لواجب النَّصيحة الَّتي هي فرض على جميع المؤمنين، وهذا كلُّه عند جمهور العلماء ما لم تَخَفْ على نفسك الأذى، فإن خفت الأذى(10) وجب عليك تغيير المنكر وإنكارُه بقلبك وهو أضعف الإيمان لأنَّ الله لا يكلِّف نفسًا إلا وسعَها.
          وقولُه: (حَـُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً) يعني ثوبًا أو حصيرًا قطع به مكانًا مِن(11) المسجد واستتر وراءَه، والعرب تقول: خصفت النَّعل خصفًا أطبقتُها في الخرز بالمخصف، وهو الإشفاء، وخصفت على نفسي ثوبًا: جمعت بين طرفيه بعود أو خيط، وفي التنزيل: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}[الأعراف:22]عن صاحب «الأفعال».


[1] في (ص): ((وقال تعالى)).
[2] في (ص): ((ثم قالت)).
[3] في (ص): ((النَّبي)).
[4] في (ص): ((فقال)) وأثبت في الحاشية: ((فتتبع)) ولم يضرب على الأولى.
[5] قوله: ((بيده ونهى عنها)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((القيامة المصورون)).
[7] في (ص): ((وجب)).
[8] في (ص): ((عليه)).
[9] في المطبوع: ((عليه)) في الموضعين.
[10] قوله: ((الأذى)) ليس في (ص).
[11] في المطبوع: ((في)).