شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يجوز من الهجران لمن عصى

          ░63▒ بابُ مَا يَجُوزُ مِن الهِجْرَانِ لمَنْ عَصَى.
          قَالَ كَعْبٌ حِينَ تَخَلَّفَ عن النَّبي(1) صلعم وَنَهَى النَّبيُّ(2) صلعم عَنْ كَلامِنَا وَذَكَرَ خَمْسِينَ لَيْلَةً.
          فيه: عَائِشَةُ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (إِنِّي لأعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضَاكِ، قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُ ذَلكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إِذَا كُنْتِ رَاضِيَةً، قُلْتِ: لَا(3) وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ سَاخِطَةً، قُلْتِ: لا وَرَبِّ إبراهيم، قَالَتْ: قُلْتُ(4): أَجَلْ لَسْتُ أُهَاجِرُ إِلا اسْمَكَ). [خ¦6078]
          قال المهلَّب: غرضُه في هذا الباب أن يبيِّن صفة الهجران الجائز وأنَّ ذلك(5) متنوع على قدر الإجرام، فمَن كان جرمُه كبيرًا(6) فينبغي هجرانُه واجتنابُه وترك مكالمتِه كما جاء في أمر كعب بن مالك وصاحبيه، وما كان مِن المغاضبة بين الأهل والإخوان فالهجران الجائز فيها(7) هجران التَّحيَّة والتَّسمية وبسط الوجه كما فعلت عائشة في مغاضبتِها مع(8) رسول الله صلعم.
          قال الطَّبري: وفي حديث كعب بن مالك أصلٌ في هجران أهل المعاصي والفسوق والبدع، ألا ترى أنَّه صلعم نهى عن كلامِهم بتخلُّفهم عنه، ولم يكن ذلك كفرًا ولا ارتدادًا، وإنَّما كان معصية ركبوها، فأمر بهجرتِهم حتَّى تاب الله عليهم، ثم أذن صلعم في مراجعتِهم، فكذلك الحق في كل مَن أحدث(9) ذنبًا خالف به أمر الله ╡ ورسولَه صلعم فيما لا شبهة فيه ولا تأويل، أو ركب معصية على علم أنها معصية لله أن يُهْجَرَ غضبًا لله ورسوله، ولا يُكلَّم حتَّى يتوب وتُعلَم توبتُه علمًا ظاهرًا كما قال في قصَّة الثلاثة الَّذين خُلِّفوا.
          فإن قيل: أفيحرج(10) مكلِّم أهل المعاصي والبدع على كلِّ وجه؟
          قيل: إن كلَّمهم بالتَّقريع لهم والموعظة والزَّجر لهم عمَّا يأتونه لم يكن حرجًا، فإن كلَّمهم على غير ذلك خشيت أن يكون آثمًا، إلا مِن أمرٍ لا يجد مِن كلامه فيه بدًّا فيكلِّمُه وهو كاره لطريقتِه وعليه واجد كالَّذي كان مِن أبي قتادة في كعب بن مالك؛ إذ ناشدَه الله هل تعلمني(11) أحبُ الله ورسولَه؟ كلُّ ذلك لا يجيبه، ثم أجابه أن قال: الله ورسوله أعلم، ولم يزده على ذلك.
          فإن قيل: فإنَّك(12) تبيح كلام أهل الشِّرك بالله، ولا توجب على المسلمين هجرتهم فكيف ألزمتنا هجرة أهل البدع والفسوق، وهم بالله ورسوله مقرُّون؟
          قيل: إنَّ حَظْرَنا ما حَظَرْنا وإطلاقنا ما أطلقنا لم يكن إلا عن أمر مَن لا يسعنا خلاف أمرِه، وذلك نهيُه(13) صلعم عن كلام النَّفر المتخلِّفين عن تبوك وهم بوحدانية الله تعالى مقرُّون ونبوَّة نبيِّه صلعم مصدِّقون(14)، وأمَّا المشركون فإنَّما(15) أطلقت لأهل الإيمان كلامَهم لإجماع الجميع على إجازتهم البيع والشِّراء منهم والأخذ والإعطاء، وقد يلزم مِن هجرة كثير مِن المسلمين في بعض الأحوال ما لا يلزم مِن هجرة كثير مِن أهل الكفر.
          وذلك أنهم أجمعوا على أنَّ رجلًا مِن المسلمين لو لزمَه حدٌّ مِن حدود الله تعالى في غير الحرم ثمَّ استعاذ بالحرم أنَّه لا يُبايع ولا يكلَّم ولا يجالس حتَّى يُخْرَجَ مِن الحرم فيُقام(16) عليه حدُّ الله تعالى(17)، ولله أحكام في خلقِه جعلَها بينَهم في الدُّنيا(18) مصلحة لهم هو أعلم بأسبابِها وعليهم التَّسليم لأمرِه فيها لأنَّ له الخلق والأمر(19)، تبارك الله ربُّ العالمين.


[1] في (ت) و(ص): ((رسول الله)).
[2] في (ت) و(ص): ((الرَّسول)).
[3] في (ت) و(ص): ((بلى)).
[4] قوله: ((قلت)) ليس في المطبوع.
[5] في (ت) و(ص): ((كان)).
[6] في (ت) و(ص): ((كثيراً)).
[7] في المطبوع: ((فيهما)).
[8] في (ت): ((من)).
[9] في (ت) و(ص): ((الحق فيمن أحدث)).
[10] في (ت) و(ص): ((فيحرج)).
[11] في (ص): ((هل تعلم أني)).
[12] في (ت) و(ص): ((إنك)).
[13] في (ت) و(ص): ((لنهيه)).
[14] في (ت) و(ص): ((تبوك وهو بوحدانية الله ونبوة نبيه مقرون)).
[15] قوله: ((فإنَّما)) ليس في (ت) و(ص).
[16] في (ص): ((حتَّى يقام)).
[17] قوله: ((الله تعالى)) ليس في (ت) و(ص).
[18] قوله: ((في الدُّنيا)) ليس في (ت) و(ص).
[19] في المطبوع: ((لأن الخلق والأمر لله)).