شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب صنع الطعام والتكلف للضيف

          ░86▒ بابُ صُنْعِ الطَّعَامِ وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ.
          فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ قَالَ: (آخَى النَّبيُّ صلعم بَيْنَ سَلْمَانَ وأبي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ فقَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنيا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَال: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حتَّى تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ليَقُومُ، فَقَال(1): نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ(2)، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرُ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا...) الحديث. [خ¦6139]
          قال المؤلِّف: التكلُّف للضَّيف لمَن قدر على ذلك مِن سنن المرسلين وآداب النَّبيِّين، ألا ترى أنَّ إبراهيم الخليل صلعم ذبح لضيفه عجلًا سمينًا، قال أهل التَّأويل: كانوا ثلاثة أنفس: جبريل وميكائيل وإسرافيل فتكلَّف لهم ذبح عجل وقرَّبه إليهم.
          وقول نبيِّنا صلعم: (جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) يقتضي معنى التكلُّف له يومًا وليلة لمَن وجد، ومَن لم يكن مِن أهل الوجود واليسار فليقدِّم لضيفِه ما تيسَّر عندَه ولا يتكلَّف له ما لا يقدر عليه، وقد ورد بذلك الخبر عن النَّبي صلعم.
          ذكر الطَّبري قال: حدَّثنا محمَّد بن خالد عن خِرَاش حدَّثنا سَلْم بن قتيبة عن قيس بن الرَّبيع عن عثمان بن شابور عن شقيق بن سلمة قال: دخلت على سلمان فقرَّب إليَّ خبز شعير وملحًا، وقال: لولا أنَّ رسول الله صلعم نهى أن يتكلَّف أحدنا ما ليس عنده تكلُّفت لك. فدلَّ بهذا الحديث أنَّ المرء إذا أضافه ضيف أن الحقَّ عليه أن يأتيه مِن الطعام بما حضرَه، وأن لا يتكلَّف له ما(3) ليس عنده، وإن كان ما حضرَه مِن ذلك دون ما يراه للضَّيف أهلًا لأنَّ في تكلفة ما ليس عنده(4) معان مكروهة.
          منها: حبس الضَّيف عن القِرى ولعلَّه أن يكون جائعًا فيضرُّ به.
          ومنها: أن يكون مستعجلًا في سفرِه فيقطعُه عنه بحبسِه إيَّاه عن إحضارِه ما حضرَه مِن الطَّعام إلى إصلاح ما لم يحضر.
          ومنها: احتقارُه ما عظَّم الله قدرَه مِن الطَّعام.
          ومنها: خلافُه أمر رسول الله صلعم وإتيانُه ما قد نهى عنه مِن التَّكلُّف.
          وروى عبد الله بن الوليد(5) عن عبد الله بن عبيد بن عُمير قال: دخل على جابر بن عبد الله نفر مِن أصحاب النَّبيِّ صلعم فقرَّب إليهم خبزًا وخلًّا ثمَّ قال: كلوا فإنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول: ((نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ، هَلَاكٌ بِالرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ مِنْ إِخْوَانِهِ فَيَحْتَقِرَ مَا فِي بَيْتِهِ أَنْ يُقَدِّمَهُ إِلَيْهِ، وَهَلَاكٌ بِالقَوْمِ أَنْ يَحْتَقِرُوا مَا قَدَّمَ إِلَيْهِمْ)).
          وقال سفيان الثَّوري: قال ابن سيرين: لا تكرم أخاك بما يشقُّ عليه وفسَّره الثَّوري فقال: ائتِه بحاضرِ ما عندك ولا تحبسه فعسى أن يشقَّ ذلك عليه.
          وفي حديث أبي جحيفة زيارة الرَّجل الصَّالح صديقَه الملاطف ودخولُه دارَه في غيبتِه وجلوسُه مع أهله.
          وفيه: شكوى المرأة لزوجَها(6) إلى صديقِه الملاطف ليأخذ على يدِه ويردَّه عما يضرُّ بأهلِه.
          وفيه: أنَّه لا بأس أن لا يأكل الضَّيف حتَّى يأكل ربَّ الدار معه.
          وفيه: أنَّه لا بأس أن يفطر ربُّ الدار لضيفِه في صيام التَّطوُّع(7).
          وفيه: كراهية التَّشدُّد في العبادة والغلوِّ فيها خشية ما يُخاف مِن عاقبة ذلك، وأنَّ الأفضل في العبادة القصد والتَّوسُّط فهو أحرى بالدَّوام، ألا ترى قول النَّبيِّ صلعم: (صَدَقَ سَلْمَانُ).
          وفيه: أنَّ الصَّلاة آخر اللَّيل أفضل لأنَّه / وقت تنزُّل الله ╡ إلى سماء الدُّنيا فيستجيب الدُّعاء.


[1] زاد في (ص): ((له)).
[2] في (ص): ((ليقوم)).
[3] في (ص): ((بما)).
[4] في المطبوع: ((عنه)).
[5] قوله: ((الولد)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((زوجها)).
[7] في (ص): ((وفيه أنه لا بأس أن يفطر...صيام التطوع)) ليس في (ص).