شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الهجرة

          ░62▒ بابُ الهِجْرَةِ. /
          وَقَوْلِ النَّبيِّ(1) صلعم:(لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ).
          فيه: عَائِشَةُ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ في بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عليَّ نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ، فَقَالَتْ: لا وَاللهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا، وَلا أَتَحَنَّثُ إلى نَذْرِي، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ على ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْد ِيَغُوثَ، وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، فقَالَ لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا(2) بِاللهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي على عَائِشَةَ، فَأنها لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأَقْبَلَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَالْمِسْوَرُ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حتَّى اسْتَأْذَنَا على عَائِشَةَ، فَقَالا: السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ ♦: ادْخُلُوا، قَالُوا: كُلُّنَا؟ قَالَتْ: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُم ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ فطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَأنها إِلَّا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولانِ: (إِنَّ النَّبي صلعم قَدْ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وأنه لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ(3)): فَلَمَّا أَكْثَرُوا على عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ: إِنِّي نَذَرْتُ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ! فَلَمْ يَزَالا بِهَا حتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ(4) في نَذْرِهَاَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا. [خ¦6073] [خ¦6074] [خ¦6075]
          وفيه: أَنَسٌ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ). [خ¦6076]
          قال الطَّبري: في حديث أنس وأبي أيوب البيان الواضح أنه غير جائز لمسلم أن يهجر مسلمًا أكثر مِن ثلاثة أيام، وأنه إن هجره أكثر مِن ثلاثة أيَّام أثِم، وكان أمرُه إلى الله إن شاء عذَّبه وإن شاء عفا عنه لأنه صلعم أخبر أنه لا يحل ذلك ومَن فعل ما هو محظور عليه فقد اقتحم حمى الله وانتهك حرمتَه.
          وفيه دليل أنَّ هجرتَه دون ثلاثة أيَّام مباح لهما ولا تبعة عليهما فيها.
          وقال غيرُه: تجاوز الله لهما عمَّا يعرض لهما مِن ذلك في ثلاثة أيَّام لما فطر الله العباد عليه(5) مِن ضعف الجِبِلَّة(6) وضيق الصَّدر، وحرَّم عليهما ما زاد على الثلاث لأنه مِن الغِلِّ الَّذي لا يحل.
          وروى عيسى عن ابن القاسم في الرَّجل يهجر أخاه إلا أنَّه يسلِّم عليه مِن غير أن يكلِّمَه بغير السلام هل يبرأ مِن الشَّحناء؟ فقال: سمعت مالكًا يقول: إن كان مؤذيًا له فقد برئ من الشَّحناء، وإن كان غير مؤذ له فلا يبرأ مِن الشَّحناء، وقاله أحمد بن حنبل.
          وروى ابن وهب عن مالك قولًا آخر: إذا سلَّم عليه فقد قطع الهجرة، وقولُه صلعم: ((وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)) حجَّة لهذا القول.
          وقيل لابن القاسم: هل ترى عليه شهادته(7) جائزة باجتنابِه كلامَه وهو غير مؤذٍ له؟ قال: لا تُقبل شهادتُه عليه.
          قال الطَّبري: فإن قيل: فما أنت قائل في حديث عائشة حين هجرت عبد الله بن الزُّبير وحلفت أن لا تكلِّمَه أبدًا فتحمَّل عليها بالشُّفعاء حتَّى كلَّمتْه؟
          قال: معنى الهجرة هو ترك الرَّجل كلام أخيه مع تلاقِيهما واجتماعِهما وإعراض كل واحد منهما عن صاحبِه مصارمة له وتركًا للسلام(8) عليه(9)، وذلك أنَّ مِن حق المسلم على المسلم إذا تلاقيا أن يسلِّم كلُّ واحد منهما على صاحبِه، فإذا تركا ذلك بالمصارمة فقد دخلا فيما حظر الله تعالى، واستحقَّا العقوبة إن لم يعف الله عنهما.
          فعائشة لم تكن ممَّن لقي(10) ابن الزُّبير فتعرض عن السَّلام عليه صرمًا له، وإنَّما كانت مِن وراء حجاب، ولا يدخل عليها أحدٌ إلا بإذن، وكان لها(11) منع ابن الزبير دخول منزلِها، وليس ذلك مِن الهجرة المنهيِّ عنها، كما لو كانت في بلدة وهو في أخرى لا يلتقيان لم يكن ذلك مِن الهجرة الَّتي يأثمان بتركِهما الاجتماع(12)، وإن مرَّت(13) أعوام كثيرة، ولم يكونا يجتمعان فيعرض أحدُهما عن صاحبه.
          ويبيِّن صحَّة ما قلناه قولُه صلعم في حديث أبي أيوب: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا)) فأخبر صلعم بسبب حظر(14) الله تعالى هجرة المسلم أخاه أنَّ ذلك إنَّما هو مِن(15) أجل تضييعِهما ما أوجب الله سبحانه عليهما عند تلاقيهما فأمَّا إذا(16) لم يلتقيا فيفرِّط كلُّ واحد منهما في واجب أخيه عليه، وذلك بعيد مِن معنى الهجرة.
          وقد تأوَّل غير الطَّبري في هجرة عائشة لابن الزبير وجهًا آخر فقال: إنَّما ساغ لعائشة ذلك لأنَّها أمُّ المؤمنين فلازمٌ(17) توقيرُها وبرُّها لجميع المؤمنين، وتنقُّصها كالعقوق لها فهجرت ابن الزبير أدبًا له، ألا ترى أنَّه لما نزع عن قولِه، وندم عليه وتشَّفع إليها رجعت إلى مكالمتِه وكفَّرت يمينَها، هذا(18) مِن باب إباحة هجران مَن عصى والإعراض عنه حتَّى يفيء إلى الواجب عليه.


[1] في (ت) و(ص): ((الرَّسول)).
[2] في (ت) و(ص): ((أنشدتكما)).
[3] زاد في (ص): ((قال))، وقوله: ((ليال)) ليس في (ص).
[4] في (ت) و(ص): ((وأعتق)).
[5] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[6] في المطبوع: ((الحيلة)).
[7] في المطبوع: ((شهادته عليه)).
[8] في (ت) و(ص): ((وتركه السلام)).
[9] قوله: ((عليه)) ليس في (ت).
[10] في (ت) و(ص): ((يلقى)).
[11] في (ت) و(ص): ((عليها)).
[12] في (ص): ((للاجتماع)).
[13] زاد في (ص): ((لهما)).
[14] في (ص): ((فأخبر بحظر)).
[15] في (ت) و(ص): ((أخاه إنَّما ذلك من)).
[16] في (ص): ((تلاقيهما فإذا)).
[17] في (ت) و(ص): ((وواجب)).
[18] في (ت) و(ص): ((وهذا)).