شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل

          ░39▒ بابُ حُسْنِ الخُلُقِ والسَّخَاءِ ومَا يُكْرَهُ مِنَ البُخْلِ.
          وَقَالَ ابْنُ عبَّاس: (كَانَ النَّبي صلعم أَجْوَدَ النَّاس وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النَّبي صلعم(1) لأخِيهِ: ارْكَبْ إلى هَذَا الْوَادِي فَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأخْلاقِ).
          فيه: أَنَسٌ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم أَجْوَدَ(2) النَّاس وَأَشْجَعَ النَّاس، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ...) الحديث(3). [خ¦6033]
          وفيه: جَابِرٌ: (مَا سُئِلَ النَّبيُ صلعم عَنْ شَيْءٍ قَطُّ فَقَالَ: لا). [خ¦6034]
          وفيه: عَبْدُاللهِ بنُ عَمْرٍو: (لَمْ يَكُن النَّبيُّ صلعم فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا، وكَانَ يَقُولُ: إنَّ(4) خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا). [خ¦6035]
          وفيه: سَهْلُ بنُ سَعْدٍ: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلى النَّبيِّ صلعم بِبُرْدَةٍ، وهِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ، فَقَالَ رَجُل: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا قَامَ النَّبيُّ صلعم لامَهُ أَصْحَابُهُ وقَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ، أَخَذَهَا النَّبيُّ صلعم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، وسَأَلْتَهُ إِيَّاهَا وَقَدْ عَرَفْتَ أنه لا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ...) الحديث. [خ¦6036]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قال النَّبيُّ صلعم: (يتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، وَهو الْقَتْلُ). [خ¦6037]
          وفيه: أَنَسٌ: (خَدَمْتُ النَّبيَّ صلعم عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لي: أُفٍّ، وَلَا: لِمَ صَنَعْتَ، وَلا: أَلا صَنَعْتَ). [خ¦6038]
          قال المؤلِّف: حسن الخلق مِن صفات النَّبيِّين والمرسلين وخيار المؤمنين، وكذلك السَّخاء مِن أشرف الصِّفات لأنَّ الله تعالى سمَّى نفسَه بالكريم الوهَّاب، وأمَّا البخل فليس مِن صفات الأنبياء ولا الجِلَّة الفضلاء، ألا ترى قولَه(5) صلعم يوم حنين: ((لَوْ كَانَ عِنْدِي عَدَدُ(6) سَمُرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُم ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيْلًا)) وقال ابن مسعود: أي(7) داء أدوى مِن البخل، وكان أبو حنيفة لا يجيز شهادة البخيل، فقيل له في ذلك فقال: أنه يتقصَّى ويحملُه التقصِّي على أن يأخذ فوق حقِّه.
          وقال الطَّبري: إن قال قائل: ما وجه قولِه صلعم: / ((خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)) وهل الأخلاق مكتسبة فيتخيَّر العبد منها أحسنَها ويترك أقبحَها(8)؟ فإن كان ذلك كذلك فما وجْه قولِه صلعم: ((اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِيْ فَحَسِّنْ خُلُقِيْ)) ومسألتِه صلعم ما سأل ربَّه مِن ذلك بتحسين خلقِه، وأنت عالم أنه(9) لا يحسِّن خلق العبد غيرُ ربِّه، فإذا كان الخُلُق فِعلًا له لم يكن له أيضًا محسِّنٌ غيرُه، وفي ذلك بطلان حمد العبد عليه إن كان(10) حسنًا وترك ذمِّه إن كان سيئًا، فإن قلت ذلك كذلك قيل لك فما(11) وجه قولِه صلعم(12): ((أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ)) وقد علمنا أنَّ العبد إنَّما يثاب على ما اكتسب لا على ما خلق له مِن أعضاء جسدِه؟.
          قيل: قد اختلف السَّلف في ذلك: فقال بعضُهم: الخلق حسنُه وقبيحُه جِبَّلة في العبد كلونِه وبعض أجزاء جسمِه.
          ذكر مَن قال ذلك: رُوي عن ابن مسعود أنه ذُكر عنده رجل فذكروا مِن خلقِه فقال: أرأيتم لو قطعتم رأسَه أكنتم(13) تستطيعون أن تجعلون(14) له رأسًا؟ قالوا: لا، قال: فلو قطعتم يدَه أكنتم تجعلون له يدًا؟ قالوا: لا، قال: فإنَّكم لن تستطيعوا أن تغيِّروا خُلَقَه حتَّى تغيِّروا خَلْقَه(15)، وقال ابن مسعود: فُرِغَ مِن أربعة: الخَلْق والخُلُق والرِّزق والأجل.
          وقال الحسن: مَن أُعطي حُسْن صورة وخلُقًا حسنًا وزوجة صالحة فقد أُعطي خير الدُّنيا والآخرة.
          واعتلُّوا بما رواه مُرَّة الهَمْداني: كان ابن مسعود يحدِّث(16) عن النَّبيِّ صلعم قال: ((إِنَّ اللهَ تَعَالى قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ)) قالوا: فهذا الحديث يبيِّن أنَّ الأخلاق مِن إعطاء الله تعالى عباده، ألا ترى تفاوتَهم فيه كتفاوتِهم بالجبن والشَّجاعة والبخل والجود، ولو كان الخلق اكتسابًا للعبد لم تختلف أحوال النَّاس فيه ولكنَّ ذلك غريزة.
          فإن قيل: فإن كان كذلك فما وجه ثواب الله تعالى على حسن الخلق إن كان غريزة؟
          قيل: أنه(17) لم يُثِب على خُلُقِه ما خَلَقَ وإنَّما أثابَه على استعمالِه ما خلق فيه مِن ذلك فيما(18) أمرَه باستعمالِه فيه، نظير الشَّجاعة الَّتي خلقَها فيه وأمرَه باستعمالِها عند لقاء عدوِّه وأثابَه على ذلك، وإن استعملَها في غير لقاء عدوِّه عاقبَه على ذلك، فالثَّواب والعقاب على الطَّاعة والمعصية لا على ما خلق في العبد.
          وقال آخرون: أخلاق العبد حسنُها(19) وسيِّئُها إنَّما هي مِن كسبِه واختيارِه فيحمد على الجميل منها، ويُثاب على ما كان منها طاعة، ويُعاقب على ما كان منها معصية، ولولا أنها للعبد كسب لبطل الأمر به والنَّهي عنه، وفي قول النَّبيِّ صلعم لمعاذ: ((اِتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَخَالِقِ النَّاس بِخُلُقٍ حَسَنْ)) البيانُ عن صحَّة ما قلناه لأنَّ ذلك لو كان طبعًا في العبد هيَّأه الله عليه لاستحال الأمر به والنَّهي عن خلافِه، كاستحالة أمر مَن لا بصر له بأن يكون له بصر، ولذلك(20) كان الحكماء يوصون بالحسن منه.
          وروى ابن عيينة عن عبد الملك بن عُمَير عن قَبِيصَة بن جابر قال: قال لي عُمَر بن الخطَّاب: يا قَبِيصَة، أراك شابًّا فصيح اللِّسان فسيح الصَّدر، وقد يكون في الرَّجل عشَرة أخلاق تسعة صالحة وخلق سيئ فيفسد التِّسعةَ الصَّالحةَ الخلقُ السيئ، فاتَّق عثرات الشَّباب.
          وقال الشَّعبي: قال صَعْصَعَة بن صُوحان لابن أخيه زيد بن صُوحان: خالص المؤمن وخالق الفاجر، فإنَّ الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن.


[1] زاد في (ص): ((قال)).
[2] في (ت) و(ص): ((أكرم)).
[3] قوله: ((الحديث)) ليس في (ت) و(ص).
[4] قوله: ((إن)) ليس في (ت) و(ص).
[5] في (ت) و(ص): ((قول الرَّسول)).
[6] قوله: ((عدد)) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ص): ((لا)).
[8] في (ت): ((قبحها)).
[9] في (ت): ((بأنه)).
[10] قوله: ((كان)) ليس في (ت).
[11] في المطبوع: ((ما)).
[12] قوله: ((خياركم أحسنكم أخلاقا..صلعم)) ليس في (ص).
[13] في (ص): ((لكنتم)).
[14] في المطبوع: ((تجعلوا)) ونبه في الحاشية إلى ما في نسخنا.
[15] قوله: ((حتَّى تغيروا خلقه)) ليس في (ت).
[16] قوله: ((يحدث)) ليس في (ت).
[17] في (ت) و(ص): ((له)).
[18] في (ت) و(ص): ((لما)).
[19] في (ت): ((حسنهما)).
[20] في (ت) و(ص): ((فلذلك)).