شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل

          ░88▒ بابُ قَوْلِ الضَّيْفِ لِصَاحِبِهِ لَا آكُلُ حتَّى تَأْكُلَ.
          فيه: أبو جُحَيفةَ عن النَّبيِّ صلعم.
          وفيه: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ مِثْلُ حَدِيثِ البَابَ قَبْلَ الَّذِي(1) هذا، وزاد فيه: (فَجَعَلُوا لا يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلا رَبَت مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ، مَا هَذَا؟ قَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّها الآنَ لأكْثَرُ(2) قَبْلَ أَنْ يَأَكَلُوا، فَأَكَلُوا وَبَعَثَ بِهَا إلى النَّبيِّ صلعم فَذَكَرَ أَنَّه أَكَلَ مِنْهَا). [خ¦6141]
          قال المؤلِّف: صاحب المنزل في منزلِه كالأمير لا ينبغي لأحد التقدُّم عليه في أمر، يدلُّ على ذلك الحديث الَّذي جاء عن النَّبي صلعم: ((لَا يُؤَمَّنَّ أَحَدٌ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يُقْعَدُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) فكان هذا الحديث أصلًا لهذا المعنى، ودلَّ هذا أنَّه ينبغي للضَّيف المصير إلى ما يحملُه عليه ضيفُه، ويشهد لهذا المعنى حديث أنس: ((أَنَّ غُلَامًا خَيَّاطًا دَعَا النَّبيَّ صلعم لِلطَّعَامِ فَقَدَّمَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَكَلَ النَّبيُّ صلعم وَأَقْبَلَ الخَيَّاطُ عَلَى عَمَلِهِ)) وقد ترجم البخاري في كتاب الأطعمة باب مَن أضاف رجلًا إلى طعامِه وأقبل هو على عملِه(3) فدلَّ هذا الحديث أنَّ أكل صاحب الطَّعام مع الضيف ليس مِن الواجبات، إلا أنَّه جاء في حديث ضيف أبي بكر ☺ معنى يختصُّ بخلاف هذا الأصل المتقدِّم، وذلك أنَّ أضيافه أقسموا أن لا يفطروا حتَّى ينصرف مِن عند النَّبيِّ صلعم فاحتبس عنده إلى هُوِيٍّ مِن الليل فبقوا دون أكل.
          وقد كان ينبغي على ظاهر الأصل المتقدِّم مِن أنَّ صاحب المنزل لا ينبغي لأحد التَّسوُّر عليه في منزلِه في أمرِهم أن يفطروا حين عرض عليهم الأكل ولا يأتوه(4)، فلما امتنعوا مِن ذلك وبقوا غير مفطرين إلى إقبال أبي بكر ثمَّ حنَّث نفسَه أبو بكر في يمينِه الَّتي بدرت / منه إيثارًا لموافقتِهم بان بذلك أنَّه يجوز للضيف أن يخالف صاحب المنزل في تأخير الطَّعام، وشبهُه إذا رأى لذلك وجهًا مِن وجوه المصلحة وأنَّه(5) لا حرج عليه في ذلك، ألا ترى أنَّ الصِّدِّيق ☺ وإن كان غضب لتأخُّر(6) قِراهم إلى وقت قدومِه لم ينكر عليهم يمينَهم، ولا قال لهم: أتيتم ما لا يجوز لكم فعلُه.
          ولا شكَّ أن أبا بكر ☺ أَعْلَمَ بذلك النَّبيَّ صلعم حين حمل إليه بقيَّة الطَّعام، ولم يعنِّف القوم ولا خطَّأهم في يمينِهم _والله أعلم_ هذا الَّذي يغلب على الوهم لأنَّ أصحابَه صلعم كانوا لا يخفون عنه كل ما يعرض لهم ليسنَّ لهم فيه.
          وقد تقدَّم في باب السَّمر مع الضَّيف والأهل في كتاب الصَّلاة شيء مِن الكلام في هذا الحديث(7).


[1] قوله: ((الَّذي)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((أكثر)).
[3] قوله: ((وقد ترجم البخاري في... هو على عمله)) ليس في (ص).
[4] كذا صورتها في (ز) و (ص): ((يأتوه))، في المطبوع: ((يأبوه)).
[5] في (ص): ((فأنه)).
[6] في (ص): ((في تأخير)).
[7] قوله: ((وتقدم في باب السمر...الكلام في هذا الحديث)) ليس في (ص).