شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: من أحق الناس بحسن الصحبة

          ░2▒ بَابٌ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ(1) بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ). [خ¦5971]
          قال المؤلِّف: في هذا الحديث دليلٌ أنَّ محبَّة الأمِّ والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبَّة الأب؛ لأنَّه صلعم كرَّر ذكر الأمِّ ثلاث مرَّاتٍ، وذكر الأب في المرَّة الرابعة فقط، وإذا تؤمِّل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أنَّ صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأمُّ، وتشقى بها دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.
          وقد جرى لأبي الأسود الدؤليِّ مع زوجته قصَّةٌ أثار فيها هذا المعنى، ذكر أبو حاتمٍ عن أبي عبيدة أنَّ أبا الأسود جرى بينه وبين امرأته كلامٌ وأراد(2) أخذ ولده منها، فسار إلى زيادٍ وهو والي البصرة، فقالت المرأة: أصلح الله الأمير، كان(3) بطني وعاؤه، وحجري فناؤه، وثديي سقاؤه، أكلؤه إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوامٍ حتَّى إذا(4) استوفى فصاله وكملت خصاله وأملت نفعه ورجوت رفعه أراد(5) أن يأخذه منِّي كرهًا، فقال أبو الأسود: أصلحك الله، هذا ابني حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه في أدبه، وأنظر في أوده، فقالت المرأة: صدق، أصلحك الله، حمله خفًّا، وحملته ثقلًا، ووضعه شهوةً، ووضعته كرهًا، فقال له زياد: اردد على المرأة ولدها فهي أحقُّ به منك، ودعني من سجعك.
          وروي عن مالكٍ أنَّ رجلًا قال له: إنَّ أبي في بلَّد(6) السودان، وقد كتب إليَّ أنِ اقدم إليه، وأمِّي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعص أمَّك.
          فدلَّ قول مالكٍ هذا أنَّ برَّهما عنده متساوٍ، ولا(7) فضل لواحدٍ منهما فيه على صاحبه؛ لأنَّه قد(8) أمره بالتخلُّص منهما جميعًا وإن كان لا سبيل له(9) إلى ذلك في هذه(10) المسالة، ولو كان لأحدهما عنده فضل في البرِّ على صاحبه لأمره بالمصير إلى أمره.
          وقد سئل الليث عن هذه المسالة فأمره بطاعة الأمِّ، وزعم أنَّ لها ثلثي البرِّ، وحديث أبي هريرة يدلُّ على أنَّ لها ثلاثة أرباع البرِّ، وهو الحجَّة على من خالفه، وزعم المحاسبيُّ أنَّ تفضيل(11) الأمِّ على الأب في البرِّ والطاعة هو إجماع العلماء.


[1] قوله: ((الناس)) ليس في (ت).
[2] في (ص): ((فأراد)).
[3] في (ت) و (ص): ((هذا)).
[4] قوله: ((إذا)) ليس في (ت).
[5] في (ت) و (ص): ((إذا قام فلم أزل بذلك ورجوت نفعه أراد)).
[6] في (ت): ((أبي وبلد))، في (ص): ((قال له: أراني وليد)).
[7] في (ت): ((لا)).
[8] في (ت): ((لأنه قد قدر)).
[9] قوله: ((له)) ليس في (ت) و (ص).
[10] قوله: ((هذه)) ليس في (ت).
[11] في (ت): ((فضل)).