شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه

          ░85▒ بابُ إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَخِدْمَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ
          وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَيْفِ إبراهيم الْمُكْرَمِينَ}[الذاريات:24].
          فيه: أَبُو شُرَيْحٍ الكَعْبِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حتَّى يُحْرِجَهُ). [خ¦6135]
          وفيه: عُقْبَةُ: (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْم ٍ لاَ يَقْرُونَنَا(1) فَمَاذا تَرَى؟ قَالَ لَنَا النَّبيُّ صلعم: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذي يَنْبَغِي لَهُ). [خ¦6137]
          سُئل مالك عن (جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) فقال: تُكرمُه وتتحفُه يومًا وليلة، وثلاثة أيَّام ضيافة.
          قسم رسول الله صلعم أمرَه إلى ثلاثة أقسام: إذا نزل به الضيف أتحفَه في اليوم الأوَّل وتكلَّف له على قدر وجدِه، فإذا كان(2) اليوم الثَّاني قدَّم إليه ما بحضرتِه، فإذا جاوز مدَّة الثَّلاث(3) كان مخيَّرًا بين أن يستمرَّ على وتيرتِه أو يمسك، وجعلَه كالصَّدقة النَّافلة.
          وقولُه: (لَا يَثْوِي عِنْدَهُ(4)) لا يقيم، والثَّواء الإقامة بالمكان، يعني لا يقيم عنده بعد الثَّلاث حتَّى يضيق صدرُه، وأصل الحرج الضيق، وإنَّما كرِه له المقام عنده بعد الثَّلاثة لئلَّا يضيق صدرُه بمقامِه فتكون الصَّدقة منه على وجه المنِّ والأذى فيبطل أجرَه؛ قال الله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}[البقرة:264].
          وقولُه: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) معناه(5) مَن كان إيمانه بالله واليوم الآخر إيمانًا كاملًا فينبغي أن تكون هذه حالُه وصفتُه فالضِّيافة مِن سنن المرسلين.
          واختلف العلماء في وجوب الضِّيافة، فأوجبَها اللَّيث بن سعد فرضًا ليلة واحدة، وأجاز للعبد المأذون له أن يضيف مما بيدِه، واحتجَّ بحديث عقبة بن عامر.
          وقال جماعة مِن أهل العلم: الضِّيافة مِن مكارم الأخلاق في بادية وحاضرةٍ، وهو قول الشَّافعي.
          وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة.
          وقال سُحنون: إنَّما الضِّيافة على أهل القرى، وأمَّا الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر.
          واحتجَّ اللَّيث بقولِه تعالى: {لَا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ}[النساء:148]أنَّها نزلت فيمَن منع الضِّيافة فأُبيح للضَّيف لَوْمُ مَن لم يحسن ضيافتَه، وذِكْرُ قبيح فعلِه، ورُوي ذلك عن مجاهد وغيرِه. فيقال لهم: إنَّ الحقوق لا ينتصف منها بالقول، وإنَّما ينتصف منها بالأداء والإبراء، فلو كانت الضِّيافة / واجبة لوجب عليهم الخروج إلى القوم ممَّا لزمَهم مِن ضيافتِهم، وفي قولِه صلعم: (جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) دليل أنَّ الضِّيافة ليست بفريضة، والجائزة في لسان العرب المنحة(6) والعطيَّة، وذلك تفضُّل وليس بواجب.
          وأمَّا حديث عقبة بن عامر فتأويله عند جمهور العلماء أنَّه كان في أوَّل الإسلام حين كان(7) المواساة واجبة، فأما إذا أتى الله بالخير والسَّعة فالضِّيافة مندوب إليها.


[1] في (ص): ((لا يقرونا)).
[2] زاد في (ص): ((في)).
[3] في (ص): ((هذه الثلاثة)).
[4] في المطبوع: ((عنه)).
[5] في (ص): ((يعني)).
[6] في (ص): ((النحل))، وفي المطبوع: ((النحلة)).
[7] كذا في (ز): ((كان)) وفي المطبوع: ((كانت)).