شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول النبي: «يسروا ولا تعسروا»

          ░80▒ بابُ قَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا) وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيْفَ وَاليُسْرَ عَلَى النَّاسِ.
          فيه: أَنَس: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلا تُنَفِّرُوا). [خ¦6125]
          وفيه: أَبُو مُوسى لَمَّا بَعَثَهُ النَّبيُّ صلعم وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَهُمَا: (يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا...) الحديث. [خ¦6124]
          وفيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلعم بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاس مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلعم لِنَفْسِهِ في شَيْءٍ(1) قَطُّ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا). [خ¦6126]
          وفيه: الأزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنَّا على شَاطِئِ نَهَرٍ بِالأهْوَازِ قَدْ نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأسْلَمِي على فَرَسٍ فَصَلَّى وَخَلَّى فَرَسَهُ، فَانْطَلَقَتِ الْفَرَسُ فَتَرَكَ(2) صَلاتَهُ وَتَبِعَهَا حتَّى أَدْرَكَهَا فَأَخَذَهَا ثُمَّ جَاءَ فَقَضَى صَلَاتَهُ، وَفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ فَأَقْبَلَ يَقُولُ: انْظُرُوا إلى هَذَا الشَّيْخِ تَرَكَ صَلَاتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم، قَالَ: وقال: إِنَّ مَنْزِلِي مُتَرَاخٍ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُه(3) لَمْ آتِ أَهْلِي إلى اللَّيْلِ، وَذَكَرَ أنَّه صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلعم وَرَأَى مِنْ(4) تَيْسِيرِهِ. [خ¦6127]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ في الْمَسْجِدِ فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاس ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم: دَعُوهُ وهْرِيقُوا على / بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا(5) مِنْ مَاءٍ، فَإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ). [خ¦6128]
          قد تقدَّمت هذه الأحاديث بأمر النَّبيِّ صلعم بالَّتيسير في كتاب الحدود وفي كتاب الأحكام.
          قال الطَّبري: ومعنى قوله: (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا) فيما كان مِن نوافل الخير دون ما كان فرضًا مِن الله تعالى، وفيما خفَّف الله سبحانه عملَه مِن فرائضِه في حال العذر كالصَّلاة قاعدًا في حال العجز عن القيام، وكالإفطار في رمضان في السفر والمرض وشبه ذلك ممَّا(6) رخَّص الله فيه لعبادِه، وأمر بالَّتيسير في النَّوافل والإتيان بما لم يكن شاقًّا ولا فادحًا خشية الملل لها ورفضِها، وذلك أنَّ أحبَّ(7) العمل إلى الله أدومُه وإن قلَّ، وقال صلعم لبعض أصحابِه: ((لَا تكُنْ كَفُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَهُ)).
          قال غير الطَّبري: ومِن تيسيرِه صلعم أنَّه لم يعنف البائل في المسجد ورفق به، ومِن ذلك قطع أبي بَرْزَةَ لصلاتِه واتِّباعِه فرسَه، وأنَّه رأى مِن تيسير النَّبيِّ صلعم ما حملَه على ذلك، وجماعة الفقهاء يرون أنَّ مَن كان في صلاة فانفلتت(8) دابَّتُه أنَّه يقطع صلاتَه ويتَّبعُها لأنَّ الصَّلاة تدرك إعادتُها ومسير دابَّتِه عنه قاطع له. وقد استوعبت هذا المعنى في كتاب الصَّلاة(9).
          قال الطَّبري: وفي أمرِه صلعم بالَّتيسير في ذلك معان:
          أحدُها(10): الأمان مِن الملال.
          والثانية: الأمان مِن مخالطة العجب قلبَ صاحبِه حتَّى يرى كأنَّ له فضلًا على مَن قَصُر عن مثل فعلِه فيهلك، ولهذا قال صلعم: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ)) وبلغ النَّبيَّ صلعم أنَّ قومًا أرادوا أن يَخْتَصُوا وحرَّموا الطيبات واللَّحم على أنفسِهم فقام النَّبيُّ صلعم وأوعد في ذلك أشدَّ الوعيد، وقال: ((لَمْ أُبْعَثْ بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَإِنَّ خَيْرَ الدِّينِ عِنْدَ اللهِ الحَنِيْفِيَّةُ السَّمْحَةُ، وَإِنَّ أَهْلَ الكِتَابِ هَلَكُوا بِالتَّشْدِيْدِ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ)).
          وفي هذا مِن الفقه أنَّ أمور الدُّنيا نظير ذلك في أنَّ الغلو وتجاوز القصد فيها مذموم، وبذلك نزل القرآن قال الله تعالى(11): {وَالَّذِيْنَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامَا}[الفرقان:67]فحَمِدَ الله تعالى في نفقاتهم تَرْكَ الإسراف والإقتار وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} الآية[الإسراء:26]، فأمر تعالى بترك التَّبذير فيما يُعطى(12) في سبيلِه(13) الَّتي تُرجى بها الزُّلفة لربِّه، فالواجب على كلِّ ذي لبٍّ أن تكون أمورُه كلُّها قصدًا في عبادة ربِّه كان أو في أمر دنياه، في عداوة كان أو محبَّة، في أكل أو شرب أو لباس أو عُري، وبكلِّ(14) هذا ورد الخبر عن السَّلف أنَّهم كانوا يفعلونَه.
          وأمَّا اجتهادُه صلعم في عبادة ربِّه فإنَّ الله تعالى كان خصَّه مِن القوَّة بما لم يخصَّ به غيرَه، فكان ما فعل مِن ذلك سهلًا عليه على أنَّه صلعم لم يكن يحيي ليلَه(15) كلَّه قيامًا ولا شهرًا كلَّه صيامًا غير رمضان.
          وقد قيل إنَّه كان يصوم شعبان كلَّه فيصلُه برمضان، فأمَّا سائر شهور السَّنة فإنَّه كان يصوم بعضَه ويفطر بعضَه، ويقوم بعض اللَّيل وينام بعضَه، وكان إذا عمل عملًا داوم عليه، فأحقُّ مَن اقتُدي به رسولُ الله صلعم الَّذي اصطفاه الله لرسالته وانتخبَه لوحيِه.


[1] قوله: ((في شيء)) ليس في (ص).
[2] في المطبوع: ((فخلى)).
[3] في (ص): ((وتركت)).
[4] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[5] في (ز): ((وسجلاً)) والمثبت من (ص).
[6] في (ص): ((فيما)).
[7] في (ص): ((أفضل)).
[8] في (ص): ((وانفلتت)).
[9] في (ص): ((وقد تقدم في الصلاة)).
[10] في المطبوع: ((أحدهما)).
[11] في (ص): ((قال تعالى)).
[12] قوله: ((فيما يعطى)) ليس في (ص).
[13] في (ص): ((سبله)).
[14] في (ص): ((فبكل)).
[15] قوله: ((ليله)) ليس في (ص).