شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المداراة مع الناس

          ░82▒ بابُ المُدَارَةِ مَعَ النَّاسِ.
          وَيُذْكَرُ عَنْ أبي الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَكْشِرُ في وُجُوهِ قَوْمٍ(1)، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ.
          فيه: عَائِشَةُ: (أنه اسْتَأْذَنَ على النَّبيِّ صلعم رَجُلٌ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ، فلَمَّا(2) دَخَلَ أَلانَ لَهُ في الْكَلامَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ في الْقَوْلِ! قَالَ(3): أي عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاس مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاس اتِّقَاءَ فُحْشِهِ). [خ¦6131]
          وفيه: الْمِسْوَرِ: (أُهْدِيَتْ إِلَى النَّبيِّ صلعم أَقْبِيَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرَةٌ بِالذَّهَبِ فَقَسَمَهَا في نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَزَلَ مِنْهَا وَاحِدًا لِمَخْرَمَةَ(4)، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ)، قَالَ أَيُّوبُ: بِثَوْبِهِ وَأَنَّه يُرِيهِ إِيَّاهُ، وَكَانَ في خُلُقِهِ شَيْءٌ. [خ¦6132]
          قال المؤلِّف: المدارة مِن أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للنَّاس، ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك مِن أقوى أسباب الألفة وسلَّ السخيمة.
          وقد روي عن النَّبيَّ صلعم أنَّه قال: ((مُدَارَةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ)).
          وقال بعض العلماء: وقد ظنَّ مَن لم يُنعِم النظر أنَّ المدارة هي المداهنة، وذلك غلط لأنَّ المدارة مندوب إليها والمداهنة محرَّمة، والفرق بينهما بيِّن، وذلك أنَّ المداهنة اشتُقَّ اسمُها مِن الدِّهان الَّذي يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنَها، وفسَّرها العلماء فقالوا: المداهنة هي أن يَلْقَى الفاسق المُظْهِرَ لفسقِه فيؤالفَه(5) ويؤاكلَه ويشاربَه، ويرى أفعالَه المنكرة ويريَه الرِّضا بها ولا ينكرَها عليه ولو بقلبِه وهو أضعف الإيمان، فهذه المداهنة الَّتي برَّأ الله ╡(6) منها نبيَّه صلعم بقولِه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم:9]والمدارة هي الرِّفق بالجاهل الَّذي يستتر بالمعاصي ولا يجاهر بالكبائر، والمعاطفة(7) في ردِّ أهل الباطل إلى مراد الله تعالى بلين ولطف حتَّى يرجعوا عمَّا هم عليه.
          فإن قال قائل: فأين أنت في قولك هذا مِن فعل النَّبيِّ صلعم حين دخل عليه المنافق فقال عند دخولِه: (بِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ) ثم حدَّثه وأثنى عليه شرًّا عند خروجِه؟.
          قيل له: إنَّ رسول الله صلعم كان مأمورًا بأن لا يحكم على أحد إلا بما ظهر منه للنَّاس لا بما يعلمُه هو منهم(8) دون غيرِه، وكان المنافقون لا يظهرون له إلا التَّصديق والطَّاعة، فكان الواجب عليه أن لا يعاملهم إلا بمثل ما أظهروا له، إذ لو حكم بعلمِه في شيء مِن الأشياء لكانت سنَّة أن يحكم كلُّ حاكم(9) بما قد(10) اطَّلع عليه فيكون شاهدًا وحاكمًا، والأمَّة مجمعة أنَّه لا يجوز ذلك، وقد قال النَّبيُّ(11) صلعم في المنافقين: ((أُولَئِكَ الَّذيْنَ نَهَانِي اللهُ عَنْ قَتْلِهِمْ)).
          والدَّاخل على النَّبيِّ صلعم إنَّما كان يُظهِر في ظاهر لفظِه الإيمان، فقال فيه النَّبيُّ صلعم قبل وصولِه إليه وبعد خروجِه ما علمَه منه دون أن يظهرَه له في وجهِه؛ إذ لو أظهرَه صار حكمًا، وأفاد كلامُه بما علمَه منه إعلام عائشة بحالِه، ولو أنَّه كان مِن أهل الشرك ورجا رسول الله صلعم إيمانَه واستئلافَه هو وقومَه وإنابتَهم إلى الإسلام لم يكن(12) مداهنة لأنَّه ليس عليه حكم إلا مِن جهة الدُّعاء إلى الإسلام لا مِن وجهة الإنكار والمقاطعة كما فعل صلعم مع المشرك الَّذي دخل عليه(13) وابنُ أمِّ مكتوم يسألُه(14) أن يدنيَه ويعلِّمَه، فأقبل على المشرك رجاء منه أن يدخل في الإسلام وتولَّى عن ابن أمِّ مكتوم، فعاتبَه الله تعالى في ذلك، فبان أنَّه مِن رسول الله صلعم إنصاف أن يظهر للإنسان ما يظهر له مما يظهرُه للنَّاس أجمعين مِن أحوالِه ممَّا لا يعلمون منه غيرَه كما فعل النَّبيُّ(15) صلعم بابن العشيرة. /


[1] في (ص): ((أقوام)).
[2] في المطبوع: ((لما)).
[3] في (ص): ((فقال)).
[4] في (ز): ((واحدة مخرمة)) والمثبت من (ص).
[5] في (ص): ((فتؤالفه)) وكذا ما بعدها.
[6] قوله: ((الله ╡)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((والمعاجلة)).
[8] قوله: ((هو منهم)) (ص).
[9] في (ص): ((سنة كل حاكم أن يحكم)).
[10] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[11] قوله: ((النَّبي)) ليس في (ص).
[12] زاد في المطبوع: ((هذا)).
[13] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[14] في (ص): ((يسله)).
[15] في (ص): ((الرَّسول)).