شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كنية المشرك

          ░115▒ بابُ كُنْيَةِ المُشْرِكِ.
          وَقَالَ الْمِسْوَرُ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: (إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أبي طَالِبٍ).
          فيه: أُسَامَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَكِبَ عَلَى قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ...) الحديث، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبيُّ صلعم، وَكَانَ النَّبيُّ صلعم / وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ تعالى، وَيَصْبِرُونَ عَلَى(1) الأذَى، قَالَ اللهُ تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا}[آل عِمْرَان:186]وَكَانَ النَّبيُّ صلعم يَتَأَوَّلُ في الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تعالى بِهِ حتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ...) الحديث. [خ¦6207]
          وفيه: عبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحْ مِنْ نَارٍ، لَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). [خ¦6208]
          وفيه(2): جواز كنية المشركين على وجه التَّألُّف لهم بذلك رجاء رجوعِهم وإسلامِهم أو لمنفعة عندَهم(3)، فأمَّا إذا لم يُرْجَ ذلك منهم فلا ينبغي تكنيتُهم، بل يُلْقَون بالإغلاظ والشِّدَّة في ذات الله ╡، ألا ترى قولَه في الحديث: (إِنَّ النَّبيَّ ◙ كَانَ يَتَأَوَّلُ فِي العَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالى بِهِ حتَّى أَذِنَ لَهُ فِيْهِمْ) يعني أذن له في قتالِهم والشِّدَّة عليهم، وآيات الشِّدَّة والقتال ناسخة لآيات الصَّفح والعفو.
          فإن قال قائل: قولك(4) أنَّه لا يجوز تكنية المشرك إلا على وجه التَّألُّف له ورجاء المنفعة بذلك قول حسن، فما معنى تكنية أبي لهب في القرآن المتلوِّ إلى يوم القيامة، وما وجه التَّألُّف ورجاء المنفعة في ذلك؟
          قيل له: ليست تكنية أبي لهب مِن هذا الباب، ولا مِن طريق التَّعظيم للمكنى في شيء، وقد تأوَّل أهل العلم في ذلك وجوهًا، أحدُها ذكرَه ثعلب قال: إنَّما كنى الله تعالى أبا لهب لأنَّ اسمَه عبد العزى، والله ╡ لا يجعلُه عبدًا لغيرِه.
          والثَّاني: أُخبِرتُ به عن الفقيه ابن أبي زَمنين أنَّه قال: اسم أبي لهب عبد العزَّى، وكنيتُه أبو عتبة، وأبو لهب لقب(5)، وإنَّما لُقب به فيما ذكر ابن عبَّاس لأنَّ(6) وجهَه كان يتلهَّب جمالًا، فليس بكنية.
          والثالث: يحتمل أن تكون تكنيتُه مِن طريق التَّجنيس في البلاغة ومقابلة اللَّفظ بما شابهَه، فكُنِّي في أوَّل السُّورة بأبي لهب لقولِه ╡ في آخرِها: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3]فجعل الله ╡ ما كان يفخر به في الدُّنيا ويزيِّنُه في جمالِه سببًا إلى المبالغة في خزيِه وعذابِه، وليس(7) ذلك مِن طريق التَّرفيع والتَّعظيم.
          وقال الطَّبري في حديث العبَّاس: فيه الدَّليل(8) على أنَّ الله تعالى قد يعطي الكافر عوضًا مِن أعمالِه الَّتي مثلها تكون قربة لأهل الإيمان بالله تعالى لأنَّه صلعم أخبر أنَّ عمَّه أبا طالب قد نفعتْه نصرتُه إيَّاه وحياطتُه له أن يخفَّف عنه مِن العذاب في الآخرة الَّذي لو لم ينصره في الدُّنيا لم يخفف عنه، فعلم بذلك أنَّ ذلك عوض مِن الله تعالى له مع كفرِه(9) لنصرتِه لرسولِه، لا على قرابتِه منه، فقد كان لأبي لهب مِن القرابة مثل ما كان لأبي طالب، فلم ينفعْه ذلك إذ كان له مؤذيًا بل قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}[المسد:1].
          و(الضَّحْضَاحُ مِنَ النَّارِ) الرَّقيق الخفيف، وكذلك الضَّحضاح مِن الماء، ومِن كل شيء: هو القليل الرَّقيق منه.
          و(الدَّرَكُ الأَسْفَلُ مِنَ النَّارِ) الطَّبقة السُّفلى مِن أطباق جهنَّم، وقد تأوَّل بعض السَّلف أنَّ الدَّرك الأسفل توابيت مِن نار تطبق عليهم.


[1] في (ز): ((عن)) والمثبت من (ص).
[2] في (ص): ((فيه)).
[3] في (ص): ((غيرهم)).
[4] في (ص): ((قوله)).
[5] في (ص): ((لقبه)).
[6] في المطبوع: ((لأنه)).
[7] في (ص): ((فليس)).
[8] في (ص): ((دليل)).
[9] زاد في (ص): ((به)).