شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا

          ░74▒ بابُ مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا أَوْ جَاهِلًا.
          وَقَالَ عُمَرُ لِحَاطِبِ: إنَّهُ مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: (وَمَا يُدْرِيكَ، / لَعَلَّ اللهَ(1) اطَّلَعَ على(2) أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوْاْ مَاْ شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ).
          فيه: جَابِر: (أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبيِّ صلعم، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلاة، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ، فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ: إِنَّه مُنَافِقٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَى النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ، ثَلاثًا؟ اقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}[الشمس:1]و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى}[الأعلى:1]وَنَحْوَهَا). [خ¦6106]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ في حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ). [خ¦6107]
          وفيه: ابْن عُمَر: (أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ في رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَلا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أو فَلْيَصْمُتْ). [خ¦6108]
          قال المهلَّب: معنى هذا الباب أنَّ المتأوِّل معذور غير مأثوم، ألا ترى أنَّ عُمَر بن الخطاب ☺ قال لحاطب لما كاتب المشركين بخبر النَّبي صلعم: إنَّه منافق، فعذر النَّبي صلعم عمر لما نسبَه إلى النفاق، وهو أسوأ الكفر، ولم يكفر عمر بذلك مِن أجل ما جناه حاطب، وكذلك عذر صلعم معاذًا حين قال للَّذي خفَّف الصَّلاة وقعطَها خلفه أنَّه منافق لأنَّه كان متأوِّلًا فلم يكفِّر معاذًا بذلك.
          ومثل ذلك قولُه صلعم حين سمع عمر يحلف بأبيه: (إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ) فلم يرَ النَّبي صلعم إكفار عمر حين حلف بأبيه وتَرَكَ الحلف بربِّه الَّذي خلقَه ورزقَه وهداه، وقصدُه لليمين(3) بغير الله تشريك لله في حقِّه لاسيَّما على طراوة عبادة غير الله، فلمَّا لم يعرِّفْه النَّبيُ(4) صلعم بأنَّ يمينَه بأبيه ليس بكفر مِن أجل تأويلِه أنَّ له أن يحلف بأبيه للحقِّ الذي(5) له بالأبوَّة، عَذَرَ عمر في ذلك بجهالتِه لأنَّ(6) الله لا يريد أن يشرك معه غيره في الإيمان؛ إذ لا يحلف الحالف إلا بأعظم ما عنده مِن الحقوق، ولا أعظم مِن حق الله ╡ على عبادِه، هذا وجه حديث عمر في هذا الباب.
          قال المؤلِّف: وكذلك عذر ◙ مَن حلف مِن أصحابِه(7) باللَّات والعزَّى لقرب عهدِهم بجري ذلك على ألسنتِهم في الجاهليَّة، وروي عن سعد بن أبي وقَّاص: أنَّه حلف بذلك فأتى النَّبيَّ صلعم فقال: يا رسول الله، إنَّ العهد كان قريبًا فحلفت باللَّات والعزَّى، فقال النَّبيُّ صلعم ((قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وقد تقدَّم بيان هذا في باب لا يحلف باللَّات والعزَّى(8) في كتاب الأيمان و النُّذور، فتأملْه هناك.
          وليس في قولِه صلعم: ((مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) إطلاق منه لهم على الحلف بذلك وكفَّارتُه بقول: لا إله إلا الله، فإنَّه(9) علَّمهم ◙ أنَّه مَن نسي أو جهل فحلف بذلك أنَّ كفارتَه أن يشهد بشهادة التَّوحيد لأنَّه قد تقدَّم إليهم صلعم بالنَّهي عن أن يحلف أحد بغير الله ╡، فعذر النَّاسي والجاهل، ولذلك سوَّى البخاري في ترجمتِه الجاهل مع المتأوِّل في سقوط الحرج عنه لأنَّ حديث أبي هريرة في الجاهل والنَّاسي، والله أعلم.


[1] زاد في (ت): ((قد)).
[2] في (ت): ((إلى)).
[3] في (ص): ((اليمين)).
[4] قوله: ((النَّبي)) ليس في (ص).
[5] في (ز): ((للذي)) والمثبت من (ص).
[6] في (ص): ((لجهالته أن)).
[7] قوله: ((من أصحابه)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((بيان هذا في باب لا يحلف باللات والعزى)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((وأنه)).