شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: المعاريض مندوحة عن الكذب

          ░116▒ بابٌ المَعَارِيْضُ مَنْدُوْحَةٌ عَنِ الكَذِبِ.
          وَقَالَ أَنَسٌ: مَاتَ ابْنٌ لأبِي طَلْحَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ: هَدَأَ نَفَسُهُ وَأَرْجُو أَنْ قَدِ اسْتَرَاحَ وَظَنَّ أنها صَادِقَةٌ.
          فيه: أَنَسٌ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم فِي مَسِيرٍ لهُ، فَحَدا الحَادِي، فَقَالَ رسُولُ الله صلعم: ارفق يَا أَنْجَشَةُ، وَيْحَكَ بِالْقَوَارِيرِ) قَالَ أَبُو قِلابَةَ: يعني النِّسَاءَ. [خ¦6209]
          وَقَالَ أَنَسٌ مَرَّةً: (لَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ) قَالَ قَتَادَةُ: يعني ضَعَفَةَ النِّسَاءِ. [خ¦6211]
          وفيه: أَنَسٌ: (كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ النَّبيُّ صلعم فَرَسًا لأبِي طَلْحَةَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا). [خ¦6212]
          ذكر الطَّبري في إسنادِه عن عُمَر بن الخطاب: إنَّ في المعاريض(1) لمندوحة عن الكذب، وعن ابن عبَّاس(2): ما أحبُّ أنَّ لي بمعاريض الكلام كذا وكذا، ومعنى مندوحة: متَّسع، يقال منه: انتدح فلان بكذا ينتدح به انتداحًا إذا اتَّسع به، وقال ابن الأنباري: يقال: ندحت الشيء إذا وسَّعْتُه.
          قال(3) الطَّبري: ويقال: انتدحت الغنم في مرابضِها إذا تبدَّدت واتَّسعت مِن البِطنة، وانتدح بطن فلان واندحى، يعني: استرخى واتَّسع(4).
          قال المهلَّب: (وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ) يعني بما ورَّت به مِن استراحة الحياة / وهدوء(5) النَّفَس مِن تعب العلَّة، وهي صادقة في الَّذي قصدتْه ولم تكن صادقة فيما ظنَّه(6) أبو طلحة وفهمَه مِن ظاهر كلامِها، ومثل هذا لا يسمى كذبًا على الحقيقة.
          وقولُه في النِّساء (القَوَارِيْر) شَبَّهَهن بها لأنهنَّ عند حركة الإبل بالحداء وزيادة مشيها به يخاف عليهن السُّقوط، فيحدث لهن ما يحدث بالقوارير مِن التَّكسُّر، وكذلك قولُه صلعم: (إِنَّهُ لَبَحْرٌ) شبَّه جريَه بالبحر الَّذي لا ينقطع، فهذا كلُّه أصل في جواز المعاريض واستعمالها فيما يجوز ويحلُّ، ونحو هذا ما رُوي عن ابن سيرين أنَّه قال: كان رجل مِن باهلة عَيُونًا فرأى بغلة شريح فأعجبتْه، فقال له شريح: إنَّها إذا ربضت لم تقم حتَّى تقام، يعني أنَّ الله تعالى هو الَّذي يقيمُها بقدرتِه، فقال الرجل: أُفٍّ أُفٍّ، يعني أنَّه استصغرَها، والأُفُّ يُقال للنَّتن.
          وذكر الطَّبري عن الثوري في الرَّجل يزوره إخوانُه وهو صائم فيكره أن يعلموا بصومِه، وهو يحب أن يطعموا عنده، فأيُّ ذلك أفضل؛ ترك ذلك أو إطعامُهم؟ قال: إطعامُهم أحبُّ إلي، وإن شاء قام عليهم وقال: قد أصبت مِن الطعام، ويقول: قد تغدَّيت، يعني: أمس أو قبل ذلك.
          وقال بعض العلماء: المعاريض شيء يتخلَّص بها الرَّجل مِن الحرام إلى الحلال(7) فيتحيَّل بها، وإنَّما يكره أن يحتال في حقٍّ فيبطلَه أو في باطل حتَّى يموِّهَه ويشبِّه أمرَه، وقد قال إبراهيم النَّخَعِي: اليمين على نيَّة الحالف إذا كان مظلومًا، وإن كان ظالمًا فعلى نيَّة المحلوف له.
          وقد رخَّص رسول الله صلعم في الكذب للإصلاح بين النَّاس، والرَّجل يكذب لامرأتِه، والكذب في الحرب فممَّا(8) يجوز فيه المعاريض ما روي عن عقبة بن العَيْزَار أنَّه قال: كنَّا نأتي إبراهيم النَّخَعِي وكان مختفيًا مِن الحجَّاج، فكنَّا إذا خرجنا مِن عنده يقول لنا: إن سُئلتم عنِّي وحلفتم، فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لنا به علم، ولا في أي موضع هو، و اعنوا أنَّكم لا تدرون(9) في أيِّ موضع أنا فيه قاعد أو قائم، فتكونون قد صدقتم.
          قال عقبة: وأتاه رجل فقال: إني آتٍ الدِّيوان وإنِّي اعترضت على دابَّة وقد نفقت، وهم يريدون أن يحلِّفوني بالله أنَّها هذه الَّتي اعترضت عليها، فكيف أحلف؟ قال إبراهيم: اركب دابة واعترض عليها، يعني: بظنِّك راكبًا، ثم احلف بالله أنَّها الدابة الَّتي اعترضت، يعني بظنِّك.
          وعاتبت إبراهيم النَّخَعِي امرأتُه في جارية له وبيده مروحة، فقال أشهدكم أنها لها وأشار بالمروحة، فلما خرجنا مِن عنده قال: على أيِّ شيء أشهدتُّكم؟ قالوا: على الجارية، قال: ألم تروني أشير بالمروحة.
          وسئل النَّخَعِي عن رجل مرَّ بعشَّار فادَّعى حقًّا، فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله ما له عندك شيء، واعن مسجد حيِّك.
          وقال رجل لإبراهيم: إنَّ السلطان أمرني أن آتي مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة؟ قال: قل: والله ما أبصرُ إلا ما سدَّدني غيري، تعني: إلا ما بصَّرني ربي.


[1] قوله: ((إن في المعاريض)) زيادة من (ص).
[2] زاد في (ص): ((قال)).
[3] في (ص): ((وقال)).
[4] قوله: ((واتسعت من البطنة...استرخى واتسع)) زيادة من (ص).
[5] في (ص): ((وهداء)).
[6] في (ص): ((اعتقده)).
[7] قوله: ((إلى الحلال)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((فيما)).
[9] في (ص): ((تدروني)).