شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رحمة الناس والبهائم

          ░27▒ بابُ رَحْمةِ النَّاس والبَهَائِمِ.
          فيه: مَالِكُ بنُ الْحُوَيْرِثِ: (أَتَيْنَا النَّبي صلعم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا إلى أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَاهُ في أَهْليِنَا، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا إلى أَهْلِيكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ...) إلى آخر الحديث. [خ¦6008]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ(1) اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذي كَانَ بَلَغَ بِي، فَنَزَلَ الْبِئْر َفَمَلأ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْب، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا في الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! فقَالَ(2): في كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ). [خ¦6009]
          وفيه(3): أَبُو هُرَيْرَةَ: قَامَ النَّبيُّ صلعم لِصَلاةٍ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِي وَهُوَ في الصَّلاة: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبيُّ صلعم قَالَ لِلأعْرَابِيِّ: ((لَقَدْ تحَجَّرْتَ وَاسِعًا(4))) يُرِيدُ رَحْمَةَ اللهِ. [خ¦6010]
          وفيه: النُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ في تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى). [خ¦6011]
          وفيه: أَنَسٌ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ). [خ¦6012]
          وفيه: جَرِيرٌ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ(5) صلعم: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ). [خ¦6013]
          قال المؤلِّف: في هذه الأحاديث الحضُّ على استعمال الرَّحمة للخلق كلِّهم كافرِهم ومؤمنِهم ولجميع البهائم والرِّفق بها، وأنَّ ذلك مما يغفر الله به الذُّنوب ويكفِّر به الخطايا، فينبغي لكلِّ مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظِّه مِن الرَّحمة ويستعملها في أبناء جنسِه وفي كلِّ حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا، وكلُّ أحد مسؤول عما استُرعِيَه(6) وملكَه مِن إنسان أو بهيمة لا تقدر على النطق وتبيين ما بها مِن الضرِّ(7)، وكذلك ينبغي أن يرحم كلَّ بهيمة وإن كانت في غير ملكِه، ألا ترى أنَّ الَّذي سقى الكلب الَّذي وجدَه بالفلاة(8) لم يكن له ملكًا فغفر الله له بتكلُّفه النزول في البئر وإخراجِه الماء في خفِّه وسقيِه إيَّاه، وكذلك كلُّ ما في معنى السَّقي مِن الإطعام، ألا ترى قولَه صلعم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً).
          وممَّا يدخل في معنى سقي البهائم وإطعامِها التخفيف عنها في أحمالِها وتكليفُها ما تطيق حملَه، فذلك مِن رحمتِها والإحسان إليها، ومِن ذلك ترك التَّعدِّي في ضربِها وأذاها وتسخيرِها في اللَّيل وفي غير أوقات السُّخرة، فقد(9) نهينا في العبيد أن نكلِّفهم(10) الخدمة في اللَّيل فإنَّ لهم اللَّيل ولمواليهم النَّهار، والدَّوابُّ وجميع البهائم داخلون في هذا المعنى.
          وفي قولِه صلعم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ غَرَسَ غَرْسًا / فَأَكَلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً) دليل(11) أنَّ ما ذَهَبَ مِن مال المسلم بغير علمه أنه يُؤجر عليه.
          وأمَّا إنكار النَّبيِّ صلعم على الأعرابي الَّذي قال: اللَّهُمَّ ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا بقوله صلعم: (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا) ولم يعجبْه دعاؤه لنفسِه وحدَه، فلأنه بخل برحمة الله تعالى على خلقه، وقد أثنى الله تعالى على مَن فعل خلاف ذلك بقوله: {وَالَّذينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا}[الحشر:10]وأخبر(12) ╡ أن الملائكة يستغفرون لمَن في الأرض، فينبغي للمؤمن الاقتداء بالملائكة والصالحين مِن المؤمنين ليكون مِن جملة مَن أثنى الله تعالى عليه ورضي فعلَه، فلم يخصَّ نفسه بالدعاء دون إخوأنه المؤمنين حرصًا على شمول الخير لجميعِهم.


[1] في (ص): ((بطريق يمشي)).
[2] في (ت) و(ص): ((قال)).
[3] في (ت) و(ص): ((فيه)).
[4] قوله: ((واسعاً)) ليس في (ت) و(ص)، وفي المطبوع: ((حجرت)).
[5] قوله: ((النَّبي)) ليس في (ت) و(ص).
[6] في (ت): ((استرعاه)).
[7] في (ص): ((الضرر)).
[8] في (ت) و(ص): ((في الفلاة)).
[9] في (ص): ((وقد)).
[10] في (ت): ((يكلفوهم)).
[11] زاد في (ت): ((على)).
[12] في (ت) و(ص): ((أخبر)).