شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن}

          ░123▒ بَاب قَوُلُه تَبَارَكَ اسْمُهُ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} الآية(1)[النور:31].
          فيه: أَبُو حَازِمٍ(2): (اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَيِّ شَيْءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبيِّ صلعم(3) يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صلعم بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: مَا بَقِي مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَعَلِيٌّ يَأْتِي بِالْمَاءِ على تُرْسِهِ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَحُرِّقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ). [خ¦5248]
          قال المُهَلَّب: إنَّما أبيح للنساء أن يبدين زينتهنَّ لمن(4) ذكر في هذه الآية من أجل الحرمة التي لهم من القرابة والمحرم، إلَّا في العبيد(5)، فإنَّ الحرمة إنَّما هي من جهة السيادة، وأنَّ العبد لا تتطاول عينه إلى سيِّدته، فهي حرمةٌ ثابتةٌ في نفسه أبيح للمرأة بها من إظهار الزينة ما أبيح لها إلى أبيها وابنها وذوي الحرمة منها مع أنَّه لا يظنُّ بحرةٍ انحطاطٌ إلى عبدٍ، هذا المعلوم من نساء العرب، والأكثر في العرف والعادة.
          وسُئل سعيد(6) بن جبيرٍ: هل يجوز للرجل أن يرى شعر ختنته؟ فتلا قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ(7)} الآية[النور:31]، فقال: لا أراها فيهنَّ(8). وقال الطبريًّ في قوله تعالى: {أَوْ بَنِي(9) إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ}[النور:31]، قال: إخوانٌ جمع أخٍ، وإخوةٌ جمع أخٍ أيضًا، كما تجمع فتًى فتيان، وتجمع فتيةً أيضًا.
          وسُئل عِكْرِمَة والشَّعبيُّ عن قوله تعالى: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ(10)}[الأحزاب:55]، قلت: ما شأن العمِّ والخال لم يذكرا؟ قالا: لأنَّهما ينعتانها لأبنائهما(11)، وكرها أن تضع خمارها عند عمِّها وخالها، ومن رأى العمَّ والخال داخلين في جملة(12) الآباء جاز ذلك. وقال النَّخَعِيُّ: لا بأس أن ينظر إلى شعر أمِّه وأخته وخالته وعمَّته(13).
          وذكر إسماعيل، عن الحسن والحسين أنَّهما كانا لا يريان أمَّهات المؤمنين. وقال ابن عبَّاسٍ: إنَّ رؤيتهما لهنَّ تحلُّ. قال(14) إسماعيل: أحسب أنَّ الحسن والحسين ذهبا / في ذلك إلى أنَّ أبناء البعولة لم تذكر في الآية التي في أزواج النبيِّ صلعم وهي قوله: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ}[الأحزاب:55]، وقال في سورة النور: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ}[النور:31]، فذهب ابن عبَّاسٍ إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى.
          وقوله تعالى: {وَلَا نِسَائِهِنَّ}[الأحزاب:55]، يعني: ولا حرج عليهنَّ في(15) ألَّا يحتجبن عن(16) نساء المؤمنين. وروي عن عُمَر بن الخطَّاب ☺ أنَّه كتب إلى عمَّاله ألَّا يُترَك امرأةٌ من أهل الذِّمَّة أن تدخل الحمَّام مع المسلمات، واحتجَّ بهذه الآية.
          وقوله(17) تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}[النور:31]، فقال(18) سعيد بن المسيِّب: لا تغرنَّكم هذه الآية، إنَّما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشَّعبيُّ يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاءٍ ومجاهدٍ. وقال ابن عبَّاسٍ: لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، فدلَّ أنَّ الآية عنده على العموم في المماليك والخدم.
          قال(19) إسماعيل: وهذا أعلى القولين وأكثر، وكانت عائشة وسائر أزواج النبيِّ صلعم يدخل عليهنَّ مماليكهنَّ، قال إسماعيل بن إسحاق: وإنَّما جاز للمملوك أن ينظر إلى شعر مولاته مادام مملوكًا لأنَّه لا يجوز له أن يتزوَّجها مادام مملوكًا(20)، وهو كذوي المحارم كما لا يجوز لذوي المحارم منها أن يتزوَّجوها(21)، ولا يدخل العبد في المحرم الذي يجوز للمرأة أن تسافر معه؛ لأنَّ حرمته منها لا تدوم، إذ قد يمكن أن تعتقه في سفرها فيحلَّ له تزويجها.
          فإن قال قائلٌ: إن حديث أمِّ عطيَّة: كنَّا نداوي الكلمى. والحديث الآخر: كنَّ النساء ينقلن القرب على متونهنَّ مُشَمِّراتٍ حتَّى يُرى خدم سوقهنَّ في المغازي مع رسول الله صلعم، يخالف الآية وحديث سهل بن سعدٍ(22).
          فالجواب: أنَّه إن صحَّ أنَّه(23) ظهر من سوقهنَّ غير الخدم ممَّا لا يجوز كشفه، فالأحاديث منسوخةٌ بسورة النور وسورة الأحزاب؛ لأنَّهما من آخر ما نزل بالمدينة من القرآن، وبإجماع الأمَّة أنَّه ليس يجوز للمرأة أن تظهر شيئًا من عورتها لذي رحمها، فكيف بالأجانب؟! وكذلك لا يجوز لها أن تظهر عورتها للنساء أيضًا.


[1] في (ص): (({يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الآية)).
[2] زاد في (ص): ((قال)).
[3] في (ص): ((رسول الله)).
[4] في (ص): ((لما)).
[5] في (ص): ((العبد)).
[6] قوله: ((سعيد)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((أو آبائهن أو آباء بعولتهن..... أو بني أخواتهن)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((منهن)).
[9] قوله: ((أو بني)) ليس في (ص).
[10] قوله: (({وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ})) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((لأنهما تبعًا لآبائهما)).
[12] في (ص): ((عمها وخالها لأن العم والخال في جملة)).
[13] في (ص): ((وعمته وخالته)).
[14] في (ص): ((لهم تحل. وقال)).
[15] قوله: ((في)) ليس في (ص).
[16] في (ص): ((من)).
[17] في (ص): ((واختلف السلف في تأويل قوله)).
[18] في (ص): ((قال)).
[19] في (ص): ((وقال)).
[20] قوله: ((لأنه لا يجوز له أن يتزوجها مادام مملوكًا)) زيادة من (ص).
[21] في (ص): ((يتزوجوهن)).
[22] قوله: ((ابن سعد)) ليس في (ص).
[23] في (ص): ((أن)).