شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها

          ░41▒ بَابُ لا يُنْكِحُ الأبُ وَغَيْرُهُ البِكْرَ وَلَا الثَّيِّبَ إِلَّا بِرِضَاهَا
          فيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ(1) حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟(2) قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ). [خ¦5136]
          وقَالَتْ عائشةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ البِكْرَ تَسْتَحِي، قَالَ: (رِضَاهَا صَمْتُهَا). [خ¦5137]
          قال ابنُ المُنْذِرِ: في هذا الحديث النَّهي عَن نكاحِ الثَّيِّب قبل الاستئمار، وعن نكاح(3) البِكْرِ قبل الاستئذان، ودلَّ هذا الحديث على أنَّ البِكَرَ الَّتي(4) أمر باستئذانها البالغ، إذ لا معنى لاستئذان مَنْ لا إذن لها، ومَنْ سكوتها وسخطها سواءٌ.
          اختلفَ(5) العلماءُ في تأويل هذا الحديث، فقالت طائفةٌ: لا يجوز للأب أنْ ينكحَ البالغ مِنْ بناته بِكْرًا كانت أو ثيِّبًا إلَّا بإذنها، قالوا: والأيِّم الَّتي لا زوجَ لها، وقد تكون بِكْرًا وثيِّبًا، وظاهر هذا الحديث يقتضي أنْ تكون البِكْرُ لا ينكحها وليُّها أبًا كانَ أو غيره حَتَّى يستأمَرها، وذلك لا يكون إلَّا في البوالغ لما(6) دلَّ عليه الحديث، ولتزويج(7) رسولِ اللهِ صلعم عائشةَ وهي صغيرةٌ.
          وهذا(8) قول الثَّوْرِيِّ والأوزاعيِّ وأبي(9) حنيفةَ وأصحابه وأبي ثَوْرِ، واحتجُّوا بهذا(10) الحديث؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم قالَ قولًا عامًّا: (لَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ وَلَا الثَّيِّبَ حَتَّى تُسْتَأمَرَ)، وكلُّ مَنْ عقدَ نكاحًا على غير ما سَنَّه النَّبِيُّ صلعم فهو باطلٌ، ودلَّ الحديثُ على أنَّ البِكْرَ إذا نُكِحَت(11) قبل إذنها بالصَّمتِ أنَّ النِّكاح باطلٌ، كما يَبْطُلُ نكاحُ الثَّيِّبِ قبلَ أنْ تستأمرَ.
          وقالت طائفةٌ: للأبِ أنْ يزوِّجَ / البِكْرَ بغيِر إذِنها(12) صغيرةً كانت أو كبيرةً، ولا يزوِّجُ الثَّيِّبَ إلَّا بإذنها وهو(13) قولُ ابنِ أبي ليلى ومالكٍ(14) والَّليْثِ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ وقال أبو قُرَّةَ(15): سألتُ مالكًا عن قولِ النَّبِيِّ صلعم: ((البِكْرُ تُسْتَأذنُ فِي نَفْسِهَا))، أيدخلُ في هذا الأب؟ قال: لا، لم يعنِ بهذا الحديث(16) الأبَ، إنَّما عَنَى به غيرَ الأبِ.
          وإنكاحُ الأب جائزٌ على الصِّغارِ ولا خيار لواحدةٍ منهنَّ(17) بعد البلوغ، وقال(18) ابنُ حَبِيْبٍ: وقد ساوى رسولُ الله صلعم بين البِكْرِ والثَّيِّب في مشاورتهما في أنفسهما، ولم يفرِّق بينهما إلَّا في الجواب بالرِّضا، وإنَّه(19) جعلَ جوابَ البِكْرِ بالرِّضا في صِمَاتها لاستحيائها، وجعلَ جوابها بالكراهة لذلك في الكلام(20) فإنَّه(21) لا حياء عليها في كراهيتها كما يكون الحياء في رضاها، ولم يُلزمْ رسولُ اللهِ صلعم الثَّيِّبَ الرِّضا(22) بالصِّماتِ حَتَّى تتكلَّمَ بالرِّضا لمفارقتها في الحياء حال البِكْر لِمَا تقدَّم مِنْ نكاحِها، والدَّليلُ على أنَّ المرادَ باستئمارِ البِكْر غير ذات الأبِ ما رَوَى(23) أبو نُعَيْمٍ قالَ: حدَّثنا يُونُسُ بنُ أبي(24) إِسْحَاقَ قال: حدَّثني أبو بُرْدَةَ بنُ أبي مُوسَى عن أبيه، أنَّ النَّبِيَّ صلعم قالَ: ((تُسْتَأَمَرُ اليَتِيْمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا))، ففرَّق بتسميته إيَّاها يتيمةً بينها وبين مَنْ لها أبٌ.
          إذا(25) كانت ثيِّبًا، فيلزم الأب مؤامرتها، ولا يجوز نكاحه عليها بغير إذنها، وأمَّا قولُ الكوفيِّين:(26) الأيِّم الَّتي لا زوجَ لها وقد تكونُ بِكْرًا فالجوابُ أنَّ العربَ وإنْ كانت تُسَمِّي(27) مَنْ لا زوج لها أيِّمًا فهو على الاتِّساع فأصل(28) الأيِّمة(29) عدم الزَّوج بعد أنْ كانَ، لكنَّ المرادَ بالأيِّم في هذا الحديث الثَّيِّبُ، والدَّليل على ذلك أنَّه قد رَوَى جماعةٌ عن مالكٍ: والثَّيِّبُ أحقُّ بنفسِها مِنْ وليِّها(30)، مكان قوله: الأيِّم أحقُّ بنفسها، ثُمَّ قالَ: والبِكْرُ تُسْتأذنُ، فذكر البِكْر بعد ذكره الأيِّم، فدلَّ أنَّها الثَّيِّب، ولو كانت الأيِّم في هذا الحديث البِكْر لبَطَلَ الوليُّ في النِّكاحِ ولكانت كلُّ بِكْرٍ لا زوجَ لها أحقُّ بنفسها مِنْ وليِّها، وكانَ هذا التَّأويل ردًّا لقوله تعالى: {فَلَا(31) تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}[البقرة:232]، فخاطب(32) بذلك الأولياء.
          واختلفوا في الثَّيِّب الصَّغيرةِ، فقال مالكٌ وأبو حنيفةَ: يزوِّجُها أبوها جبرًا كالبِكْرِ، وسواءٌ أُصيبت بنكاحٍ أو زنا، وقالَ الشَّافعيُّ: لا يزوِّجها إلَّا بإذنها، وسواءٌ جُومعت بنكاحٍ أو زنا(33) ووافقه أبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ إذا كان الوطْءُ بزنا، واعتلوا بأنَّها إذا جرَّبَتِ(34) الرِّجالَ كانت أعرفَ بحظِّها مِنَ الوليِّ، فوجب أنْ يكونَ الأمرُ لها، واحتجَّ الأوَّلون فقالوا: لَمَّا كانت محجورًا(35) عليها في مالها حجر الصَّغير جازَ أنْ يجبرها على النِّكاح، وأيضًا فإنَّها قد ساوت البِكْر الصَّغيرة في أنَّها لا يصحُّ اختيارها، فلا معنى لاستئمارها.


[1] في (ص): ((الأيَّام)).
[2] في (ز): ((وَكَيْفَ إِذْنُهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
[3] في (ز): ((إنكاح)).
[4] في (ص): ((الَّذي)).
[5] في (ز): ((واختلف)).
[6] في (ز): ((بما)).
[7] في (ز): ((لتزويج)).
[8] في (ز): ((هذا)).
[9] في (ص): ((وأبو)).
[10] في (ز): ((بظاهر هذا)).
[11] في (ز): ((أنكحت)).
[12] في (ز): ((أمرها)).
[13] في (ز): ((بأمرها وهذا)).
[14] قوله: ((ومالك)) ليس في (ز).
[15] في (ص): ((قرَّة)) غير واضحة.
[16] قوله: ((الحديث)) ليس في (ز).
[17] في (ز): ((لواحد منهم)).
[18] في (ز): ((قال)).
[19] في (ز): ((فإنَّه)).
[20] في (ز): ((وجعل جوابها للكراهيَّة لذلك بالتَّصريح بالكلام)).
[21] في (ز): ((لأنَّه)).
[22] قوله: ((الرِّضا)) ليس في (ص).
[23] زاد في (ص): ((ابن)).
[24] قوله: ((أبي)) ليس في (ص).
[25] في (ز): ((فإذا)).
[26] زادَ في (ز): ((إنَّ)).
[27] زاد في (ز): ((كلُّ)).
[28] في (ز): ((وأصل)).
[29] في (ص): ((الُّلغة)).
[30] في (ز): ((الثَّيِّب أحقُّ بنفسها ومِنْ وليِّها)).
[31] في (ص): ((ولا)).
[32] في (ز): ((يخاطب)).
[33] قوله: ((وقال الشَّافعيُّ: لا يزوِّجها إلَّا بإذنها، وسواء جومعت بنكاح أو زنا)) ليس في (ز).
[34] في (ز): ((اختبرت)).
[35] في (ص): ((محجور)).