شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}

          ░20▒ بَابُ {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}[النِّساء:23]
          وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ
          فيهِ عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ في بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ في بَيْتِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : أُرَاهُ فُلانًا _لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ_ قَالَتْ عَائِشَةُ: ولَوْ(1) كَانَ فُلانٌ حَيًّا _لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ_ دَخَلَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ(2): نَعَمْ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الوِلادَةُ). [خ¦5099]
          فيهِ(3) ابنُ عَبَّاسٍ: (قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلعم: أَلَا تتَزَوَّجُ(4) ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ قَالَ(5): إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ). [خ¦5100]
          وفيهِ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أبي سُفْيَانَ قَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللهِ، انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ(6): أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ؟ فَقُلْتُ(7): نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ(8) بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي في خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: إِنَّ ذَلِكِ لَا يَحِلُّ لِي، قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ(9) تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: ابنَةُ(10) أُمِّ سَلَمَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ(11): إنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي(12) في حَجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا ابنَةُ(13) أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ). [خ¦5101]
          قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأبِي(14) لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا، فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ صلعم فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خِيبَةٍ، فقَالَ لَهُ(15): مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ، غَيْرَ أني سُقِيتُ في هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ.
          لا خلافَ بين الأُمَّة أنَّه يحرُمُ مِنَ الرَّضَاع ما يحرمُ مِنَ النَّسَبِ لقوله ╡: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ}[النِّساء:23]، فإذا كانت الأمُّ مِنَ الرَّضَاع(16) محرَّمةً، كان كذلك زوجها، وصار أبًا لمَنْ أرضعته زوجته؛ لأنَّ اللَّبنَ منهما جميعًا، وإذا كان زوجُ الَّتي أرضعت أبًا كان أخوه عمًّا، وكانت أخت المرأة خالةً، يحرم مِنَ الرَّضَاع(17) العمَّات والخالات والأعمام والأخوال والأخوات(18)، وبناتهنَّ، كما يحرم مِنَ النَّسَبِ(19)، هذا معنى قوله ◙: (الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ مِنَ(20) الوِلَادَةِ).
          قالَ(21) ابنُ المُنْذِرِ: إذا أرضعت امرأة الرَّجل جاريةً حرُمت على ابنه وعلى أبيه وعلى جدِّه وعلى بني بنيه وبني بناته، وعلى كلِّ ولد ذكرٍ وولد ولده، وعلى كلِّ جدٍّ له مِنْ قبل أبيه / وأمِّه، وإذا كان المرضع غلامًا حرَّم الله(22) عليه(23) ولد المرأة الَّتي أرضعته، وأولاد الرَّجل الَّذين أرضع هذا الصَّبيِّ بلبنه، وهو زوج المرضعة، ولا تحلُّ له عمَّته مِنَ الرَّضاعة ولا خالته(24)، ولا بنت أخيه ولا بنت أخته(25) مِنَ الرَّضاعة.
          وأمَّا قولُه ◙ في ابنة حَمْزَةَ: (إنَّهَا ابنُةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ)، فإنَّ حَمْزَةَ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ عمِّ النَّبيِّ صلعم أرضعته ثُوَيبَةُ مولاة أبي لهبٍ، ثُمَّ أرضعت بعده رسول اللهِ صلعم، ثُمَّ أرضعت بعده أبا سَلَمَة َبن عبدِ الأَسَدِ، هذا قول مُصَعْبِ الزُّبَيْرِيِّ، قال(26): فكان أبو سَلَمَةَ ورسولُ اللهِ وحمزةُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ أخوَّةٌ مِنَ الرَّضاعةِ، قال ابنُ إِسْحَاقَ: وكان حمزةُ(27) أَسَنَّ مِنَ النَّبِيِّ(28) بسنتين، وقيل: بأربعٍ(29).
          وأمَّا قول أمِّ حبيبةَ بنتِ أبي سُفْيَانَ بنِ الحَارِثِ(30) زوج النَّبِيِّ صلعم: (يَا رَسُولَ اللهِ، انكِحْ أُخْتِي) فَإِنَّها لَمْ تَعْلَمْ أنَّ الجَمْعَ بينَ الأختين حرامٌ، فلذلك(31) قالَ لها ولسائرِ نسائِه(32): (لَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ ولا أَخَوَاتِكُنَّ، فَإِنَّ بَنَاتِكُنَّ رَبَائِبُ لِي)، والرَّبيبة حرامٌ مثلُ الجمعِ بين الأختين.
          وأمَّا قوله في بنت أبي(33) سَلَمَةَ: (لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيْبَتِي(34) فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، مِنْ أَجْلِ أَنَّ أَبَاهَا(35) أَبَا سَلَمَةَ أَخُو(36) النَّبِيِّ صلعم مِنَ الرَّضاعة) فكانت بنته حرامًا عليه؛ لأنَّها ربيبة النَّبِيِّ، وأنَّها بنت(37) أخيه مِنَ الرَّضاعة.
          قال ابنُ المُنْذِرِ: ولا بأس أنْ يتزوَّج الرَّجل المرأة الَّتي أرضعت ابنه، وكذلك يتزوَّج بنت المرأة الَّتي هي رضيعة(38) ابنه، ولأخي هذا الصَّبيِّ المرضع أنْ يتزوَّج المرأة الَّتي أرضعت أخاه، ويتزوَّج ابنتها الَّتي هي رضيع أخيه، وما أراد مِنْ ولدها وولد ولدها، وإنَّما يحرم نكاحهنَّ على المرضع، وهذا(39) مذهب مالكٍ والكوفيِّين والشَّافعيِّ وأبي ثَوْرٍ.
          وذكر عليٌّ بنُ المَدِيْنيِّ(40) عن عبدِ الرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ عن الزُّهْرِيِّ: ((أنَّ أَبَا لَهَبٍ أَعْتَقَ جَارِيَةً لَهُ(41) يُقَالُ لَهَا: ثُوَيبَةُ، وَكَانَتْ أَرْضَعَتِ(42) النَّبيَّ صلعم، فَرَأَى أَبَا لَهَبٍ بَعْضُ أَهْلِهِ في النَّومٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ بَعْدَكُمْ رَاحَةً، غَيرَ أنِّي سُقِيتُ في هذه _وأشارَ إلى النُّقرَةِ الَّتي تَحتَ إِبهَامِه_ بعتقِي ثُوَيْبَةَ)) فبان برواية مَعْمَرٍ أنَّه سقط مِنْ رواية البخاريِّ في هذا الحديث: (رَاحَةً) بعد قوله: ((لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ)) لأنَّه لا يتمُّ الكلامُ على ما رواه البخاريُّ، وكذلك سقط منه: ((وأشارَ إلى النُّقرَةِ الَّتي تحتَ إبهامِه)) ولا يقوم معنى الحديث إلَّا بذلك، ولا(43) أعلم مِمَّنْ خالفهم فيه(44).
          وفي هذا الحديث مِنَ الفقه: أنَّ الكافرَ بالله قد(45) يعطى عوضًا مِنْ أعماله الَّتي يكون مثلها قربةٌ لأهل الإيمان بالله(46)، وذلك أنَّ أبا لهبٍ أخبر أنَّه سُقِيَ في النَّار بعتقه ثُوَيبَةَ في النُّقرة الَّتي تحت إبهامه، وكان ذلك تخفيفًا له مِنَ العذاب، كما جاء أنَّه يخفَّف عن أبي طالبٍ العذابُ ويُجعل في ضحضاحٍ مِنْ نارٍ يغلي منه دماغه، غير أنَّ التَّخفيفَ عن أبي لهبٍ أقلُّ مِنَ التَّخفيف عن أبي طالبٍ؛ لأنَّ أبا لهبٍ كان مؤذيًا للنَّبِيِّ صلعم، فلم يقع له التَّخفيف بعتق ثُوَيبَةَ إلَّا بمقدار ما تحمل النُّقرة الَّتي تحت إبهامه مِن الماء، وخُفِّف عن أبي طالبٍ أكثر مِن ذلك لنصرته للنَّبيِّ صلعم وحياطته له، فدلَّ(47) هذا كلُّه أنَّ التَّخفيفَ عنهما مع كفرهما بالله تعالى الَّذي ماتا عليه كان لأجلِ(48) ما أوقعاه مِنَ القُربة وفعل الخير في حال شركهما، ودلَّ هذا على عظيم تفضُّل الله تعالى على عباده الكافرين.
          وصَحَّ قولُ مَنْ تأوَّل في معنى الحديث الَّذي جاءَ عنِ الله تعالى: ((أَنَّ رحمَتَهُ سبَقَتْ غَضَبَهُ))، أنَّ رحمته تعالى لا تنقطع عن أهل النَّار المخلِّدين فيها، إذ في قدرته ╡ أن يخلق لهم عذابًا يكون عذاب النَّار لأهلها رحمةً وتخفيفًا بالإضافة إلى ذلك العذاب، وقد جاء في حديث أبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ: ((أَنَّ الكَافِر إِذَا أَسْلَمَ يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ أَهْلِ(49) الطَّاعَةِ))، وقد قال(50) ◙: ((إِذَا أَسْلَمَ الكَافِرُ فحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَانَتْ(51) لَهْ كُلُّ حَسَنَةٍ عَمِلَهَا، ومُحِيَ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا))، وقال ◙ لحكيمِ بنِ حِزَامٍ: ((أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ))، وقد تقدَّم حديث حكيمِ بنِ حزامٍ في كتاب الزَّكاة في باب مَنْ تصدَّق في الشِّرك ثُمَّ أسلم [خ¦1436] وفي كتاب العتق في باب مَنْ أعتق المشرك [خ¦2538]، وتقدَّم(52) حديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ في كتاب الإيمان في باب حسنِ إسلامِ المرءِ [خ¦41]، / ومرَّ هناك مِنَ الكلام في معانيه(53) ما فيه كفايةٌ.


[1] في (ز): ((لو)).
[2] قوله: ((فقال)) ليس في (ص).
[3] في (ز): ((وفيه)).
[4] في (ز): ((تزوَّج)).
[5] في (ز): ((فقال)).
[6] في المطبوع: ((فقال)).
[7] في (ز): ((فقالت)).
[8] قوله: ((لك)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((تريد أن)) ليس في (ص).
[10] في المطبوع: ((بنت)).
[11] في المطبوع: ((فقال)).
[12] في (ص): ((ربيبة)).
[13] في (ز): ((لابنة)).
[14] في (ز): ((أبي)).
[15] في المطبوع: ((قال له)).
[16] في (ز): ((الرَّضاعة)).
[17] في (ز): ((فحرم بالرَّضاع)).
[18] قوله: ((والأخوات)) ليس في (ص).
[19] في (ز): ((بالنَّسب)).
[20] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[21] في (ز): ((وقال)).
[22] قوله: ((حرَّم الله)) ليس في (ز)، وهو مثبت مِنَ المطبوع.
[23] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[24] في (ز): ((ولا تحلُّ له خالته مِنَ الرَّضاعة ولا عمَّته)).
[25] قوله: ((ولا بنت أخته)) ليس في (ص).
[26] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[27] قوله: ((ورسول الله وحمزة بن عبد المطَّلب أخوَّة مِنَ الرَّضاعة. قال ابن إسحاق: وكان حمزة)) ليس في (ز)، وهو مثبت من المطبوع.
[28] في (ز): ((رسول الله صلعم)).
[29] زاد في (ز): ((سنين)).
[30] في (ز): ((حرب)).
[31] في المطبوع: ((فكذلك)).
[32] في (ز): ((أزواجه)).
[33] في (ز): ((أم)).
[34] في (ز): ((ربيبة)).
[35] قوله: ((أباها)) ليس في (ص).
[36] في (ص): ((أخي)).
[37] في (ز): ((بأنَّها ربيبته وبأنَّها بنت)).
[38] في (ز): ((رضيع)).
[39] زاد في (ز): ((على)).
[40] قوله: ((ابن المدينيِّ)) ليس في (ص).
[41] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[42] في (ز): ((ترضع)).
[43] في (ز): ((والله)).
[44] في (ز): ((مِمَّن جاء الوهم فيه)).
[45] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[46] قوله: ((بالله)) ليس في (ص).
[47] في (ز): ((يدلُّ)).
[48] في (ز): ((مِنْ أجل)).
[49] في (ز): ((أعمال)).
[50] في (ز): ((فقال)).
[51] في (ز): ((كتب)).
[52] في (ز): ((وقد تقدَّم)).
[53] قوله: ((في معانيه)) ليس في المطبوع، وفي (ز): ((معانيها)).