شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب نهي رسول الله عن نكاح المتعة آخرًا

          ░31▒ بَابُ نَهي النَّبِيِّ صلعم عَنْ نِكَاحِ المُتْعَةِ
          فيهِ عَلِيٌّ، قَالَ لابنِ عَبَّاسٍ: (إِنَّ النَّبِيَّ صلعم نَهَى عَنْ نِكَاحِ المُتْعَةِ(1)، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ). [خ¦5115]
          قَالَ(2) أَبُو جَمْرَةَ: سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ(3) عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ(4): إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الحَالِ الشَّدِيدِ، وفي النِّسَاءِ قِلَّةٌ ونَحْوَهُ(5) فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ. [خ¦5116]
          وفيهِ جَابِرٌ وَسَلَمَةُ بنُ الأكْوَعِ قَالَا(6): (كُنَّا في جَيْشٍ، فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلعم، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ(7) قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا). [خ¦5117] [خ¦5118]
          وزاد سَلَمَةُ(8)، عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا، فعِشْرَةُ(9) مَا بَيْنَهُمَا ثَلاثُ لَيَالٍ، فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتشارَكَا تَشارَكَا(10)، فَمَا أَدْرِي أَشَيءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً)، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ(11): وَقَدْ(12) بَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ مَنْسُوخٌ.
          وذكر(13) الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَليٍّ بنِ أبي طالبٍ وابنِ عُمَرَ، أنَّ النَّهيَ عنِ المتعةِ كانَ يومَ خيبر، ورواه مالكٌ ومَعْمَرٌ ويُونُسُ، عن ابنِ شِهَابٍ في هذا الحديث: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم نَهَى عَنْ مُتعةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ)).
          وقد رُوِيَت آثارٌ أُخَرُ(14) أنَّ نهيَهُ ◙ عنِ المتعةِ كان في غيرِ يومِ خيبرَ، فروى أبو العُمَيْسِ عن إِيَاسِ بنِ سَلَمَةَ(15) عن أبيه: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَذِنَ في المُتْعَةِ عَامَ أَوطَاسٍ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا))، مِنْ حديث ابنِ أبي شَيْبَةَ، وروى عِكْرِمَةُ بنُ(16) عَمَّارٍ عن سَعِيْدٍ المَقْبُرِيِّ، عن أبي هُرَيرَةَ: ((أَنَّهُ حَرَّمَ / المُتْعَةَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ))، ذكره الطَّحَاوِيُّ.
          وقال عَمْرُو عن الحَسَنِ: ما حلَّت المتعة قطُّ إلَّا ثلاثًا في عُمْرَةِ القضيَّة(17)، ما حلَّت قبلها ولا بعدها، وروى حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عن أَيُّوبَ عن الزُّهْرِيِّ عنِ الرَّبِيعِ بنِ سَبْرَةَ عن أبيه قالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ المُتْعَةِ عَامَ الفَتْحِ)).
          ورَوَى عبدُ العزيزِ بنِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ عن الرَّبِيعِ بنِ سَبْرَةَ عن أبيه: ((أَنَّهُ نُهِيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ)).
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: فكلُّ(18) هؤلاءِ الَّذين رووا عن رسولِ اللهِ صلعم إطلاقها، أخبروا أنَّها كانت في سفرٍ، وأنَّ النَّهي لحقها في ذلك السَّفر بعد ذلك فمنع منها، وليس أحدٌ منهم يُخبر أنَّها كانت في حضرٍ، وكذلك رُوِيَ عن ابن مَسْعُودٍ قال: ((كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبيِّ صلعم وَلَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَستَخصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَرَخَّصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ بِالثَّوْبِ إِلَى أَجَلٍ))، مِنْ حديث إِسْمَاعِيْلَ بنِ أبي(19) خَالِدٍ عن قَيْسِ بنِ أبي حَازِمٍ، عن ابنِ مَسْعُودٍ، وأخبر(20) ابنُ مَسْعُودٍ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما كَانَ أَبَاحَهَا لَهُمْ في حَالِ الغَزْوِ)).
          فأمَّا حديثُ سَبْرَةَ الَّذي فيه إباحةُ النَّبيِّ صلعم لها في حَجَّةِ الوداع، فخارجٌ عن معانيها كلِّها؛ لأنَّ في حديث ابنِ مَسْعُودٍ أنَّ إباحتها لهم كان في حال ضرورتهم إليها، حَتَّى سألوه أْن يأذنَ لهم في الاستخصاء، وحديث سَلَمَةَ(21) في غزوة أَوطَاسٍ وهو وقت ضرورةٍ.
          وأخلق بحديث سَبْرَةَ الَّذي فيه أنَّها كانت في حَجَّةِ الوداع أنْ يكونَ خطأٌ؛ لأنَّه لم يكن لهم حينئذٍ مِنَ الضَّرورات(22) ما كان لهم في الغزوات الأُخَر، وقد اعتبرنا هذا الحرف، فلم نجده إلَّا في رواية عبدِ العزيزِ بنِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ خاصَّةً.
          فأمَّا عبدُ العزيزِ بنُ الرَّبِيعِ بن سَبْرَةَ فرواه عن أبيه، وذكر أنَّه كانَ عام الفتح، وقد رواه إِسْمَاعِيْلُ بنُ عَيَّاشٍ عن عبدِ العزيزِ بنِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، فذكر أنَّ ذلك كان في فتح مكَّة، وأنَّهم شَكُوا إليه العزبة في حَجَّةَ الوداع(23)، فرخَّص لهم فيها، ومحالٌ أنْ يشكوا إليه العزبة في حَجَّةِ الوداع؛ لأنَّهم كانوا حَجَّوا بالنِّسَاء، وكانَ تزويج النِّسَاء بمكَّة يمكنهم ولم(24) يكونوا حينئذٍ كما كانوا في الغزوات المتقدِّمة.
          فلمَّا اختلفَ المواطن المذكورة فيها الإباحة(25) في حديث سَبْرَةَ ارتفع المواطن(26) والوقت، وصار حديثه لا على موطنٍ ولا على وقتٍ، ولكنْ على النَّهي المطلق، قال غيره:(27) روى أهل مكَّة واليمن عن ابن عبَّاسٍ تحليل المتعة، ورُوِيَ(28) أنَّه رجع عنها بأسانيد ضعيفةٍ، وإجازة المتعة عنه أصحُّ، وهو مذهب الشِّيعة.
          واتَّفق فقهاء الأمصار مِنْ أهل الرَّأي والأثر على تحريم نكاح المتعة، وشذَّ زُفَرُ عن الفقهاء، فقال: إن تزوَّجها عشرة أيَّامٍ أو نحوها أو شهرًا(29)، فالنِّكاح ثابتٌ والشَّرط باطلٌ، ولا خلافَ أنَّ المتعةَ نكاحٌ إلى أجلٍ لا ميراث فيه، وأنَّ الفرقة تقعُ فيه(30) عند انقضاء الأجل مِنْ غير طلاقٍ، وليس هذا حكم الزَّوجيَّة عند أحدٍ مِنَ الأُمَّة، وقد نَزَعت عائشةُ والقَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ في أنَّ(31) تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك أنَّ(32) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ(33)}[المؤمنون:5-6]الآية، وليست المتعة نكاحًا ولا ملك يمينٍ.
          وقد رُوِيَ(34) عن عليٍّ وابنِ مَسْعُودٍ في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ}[النِّساء:24]، قالا: نسخ(35) الطَّلاق والعدَّة والميراث المتعة، وقال نافعٌ(36) سُئِلَ ابنُ عُمَرَ عن المتعة، فقال: حرامٌ، فقيل له: إنَّ ابنَ عبَّاسٍ يفتي بها، قال: فهلَّا يزمزم إذا حرَّك فاه ولا يتكلَّم(37) يزمزم(38) بها في زمن عُمَرَ.
          وقال ابنُ عُمَرَ وابنُ الزُّبَيْرِ: المتعة(39) هي السِّفاح، وقال(40) نافعٌ عن ابنِ عُمَرَ(41): قال عُمَرُ: متعتانِ كانتا على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم أَنَا أنهى عنهما وأعاقبُ عليهما: متعةُ النِّسَاءِ ومتعةُ الحَجِّ.
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: فهذا عُمَرُ نَهَى عنِ المتعةِ بحضرة أصحاب النَّبِيِّ صلعم فلم يُنكر ذلك عليه منكرٌ، وفي ذلك(42) دليلٌ على متابعتهم له على ما نهى عنه، وذلك دليلٌ على نسخها، ثُمَّ هذا ابن عبَّاسٍ يقول: إنَّما أُبيحت والنِّساء قليلٌ، فلمَّا كثرن ارتفع المعنى / الَّذي مِنْ أجله أُبيحت.
          فإنْ قيل: أليس قد رويتم عن عليٍّ أنَّ النَّبِيَّ صلعم حرَّمها يوم خَيْبَرَ، فما معنى رواية الرَّبِيعِ بنِ سَبْرَةَ: أنَّه حرَّمها في حَجَّةِ الوداع؟ قيل: قد(43) كانت عادةُ النَّبِيِّ صلعم تكرير مثل هذا في مغازيه، وفي المواضع الجامعة، فذكرها في حَجَّةِ الوداع لاجتماع النَّاس حَتَّى يسمعه مَنْ لم يكنْ سمعه، فأكَّد ذلك حَتَّى لا تبقى شبهةٌ لأحدٍ يدَّعي تحليلها، ولأنَّ أهل مكَّة كانوا يستعملونها كثيرًا.
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: والحُجَّةُ على زُفَرَ حديث(44) الرَّبِيعِ بن سَبْرَةَ عن أبيه: ((أنَّ الرَّسُولَ صلعم لَمَّا نَهَى عَنِ المتعةِ قَالَ لهم: مَنْ كَانَ عندَه مِنْ هذهِ النِّسَاءِ شيءٌ فَليُفَارِقهُنَّ، فإنَّ اللهَ قدْ حَرَّمَ المتعةَ إِلَى يومِ القيامةِ))، فدلَّ هذا على(45) أنَّ العقدَ المتقدِّمَ لا يوجبُ دوامَ العقد للأبدِ ولو أوجبَ دوامه لكان يُفسخ(46) الشَّرط الَّذي تعاقدا عليه، ولا يُفسخ النِّكاح إذا(47) كان ثبت على صحِّته وجوازه(48) قبل النَّهي، ففي أمره إيَّاهم بالمفارقة دليلٌ على أنَّ مثل هذا(49) العقد لا يجب به ملك بضعٍ، والله أعلم.


[1] قوله: ((فيه عَلِيٌّ، قَالَ لابنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صلعم نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ)) ليس في (ص).
[2] في (ز): ((وقال)).
[3] في (ز): ((يسأل)).
[4] في (ص): ((فقال مولاه)).
[5] في (ز): ((أو نحوه)).
[6] قوله: ((قالا)) ليس في (ز).
[7] في (ز): ((فقال إنَّه)).
[8] في (ص): ((سالم)).
[9] في (ز): ((بعشرة)).
[10] في المطبوع: ((يتتاركا تتاركا))، وفي (ص): ((أو يتاركا تتاركا)).
[11] في (ز): ((أبو عبد الله)).
[12] قوله: ((قد)) ليس في المطبوع.
[13] في (ز): ((ذكر)).
[14] قوله: ((أخر)) ليس في (ص).
[15] زاد في (ز): ((ابن الأكوع)).
[16] في (ص): ((وابن)).
[17] في (ز): ((القضاء)).
[18] في (ز): ((وكلُّ)).
[19] قوله: ((أبي)) ليس في (ص).
[20] في (ز): ((فأخبر)).
[21] زاد في (ز): ((ابن الأكوع)).
[22] في (ز): ((الضَّرورة مثل)).
[23] قوله: ((في حجَّة الوداع)) ليس في (ص).
[24] في (ز): ((وإنْ لم)).
[25] في (ز): ((اختلف الموطن المذكور فيه الإباحة)).
[26] في (ز): ((الموطن)).
[27] قوله: ((قال غيره)) ليس في (ز).
[28] زاد في (ز): ((عنه)).
[29] في (ز): ((شبهها)).
[30] في (ز): ((فيها)).
[31] قوله: ((أنَّ)) ليس في (ز).
[32] في (ز): ((وذكر)).
[33] قوله: (({إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ})) ليس في (ص).
[34] في (ز): ((وروي)).
[35] في المطبوع: ((ينسخ)).
[36] في المطبوع: ((قال نافع))، وقوله: ((وقال نافع)) ليس في (ز).
[37] قوله: ((يزمزم إذا حرَّك فاه ولا يتكلَّم)) ليس في (ز).
[38] في (ز) صورتها:((يؤمر)).
[39] قوله: ((المتعة)) ليس في (ص).
[40] في (ز): ((روى)).
[41] زاد في (ز): ((قال)).
[42] في (ز): ((هذا)).
[43] قوله: ((قد)) ليس في (ز).
[44] في (ز): ((زفر ما رواه)).
[45] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[46] في (ز): ((بفسخ)).
[47] في (ز): ((إذ)).
[48] في (ز): ((صحَّة وجواز)).
[49] في (ز): ((ذلك)).