شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التزويج على القرآن وبغير صداق

          ░50▒ بَاب التَّزْوِيجِ على الْقُرْآنِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ.
          فيه: سَهْلٌ: (إِنَّ امْرَأَةٌ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ، فَلَمْ يُجِبْهَا بشَيْءٍ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْكِحْنِيهَا، قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ(1)؟ قَالَ: لا، قَالَ: اذْهَبْ، فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ فَطَلَبَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ: مَعَكَ(2) مِنَ الْقُرْآنِ شيء؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، قَالَ(3): اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ). [خ¦5149]
          وترجم(4): بابُ الْمَهْرِ بِالْعُرُوضِ وَخَاتَمِ الحَدِيدٍ.
          اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فذهب قومٌ إلى أنَّ النكاح على سورةٍ من القرآن مسمَّاةٍ جائزٌ(5)، وقالوا: معنى ذلك أن يعلِّمها تلك السورة، هذا قول الشافعيِّ. وقال آخرون: لا يكون تعليم القرآن مهرًا، هذا قول مالكٍ واللَّيث وأبي حنيفة وأصحابه والمزنيِّ، إلَّا أنَّ أبا حنيفة قال: إذا تزوَّج على ذلك فالنكاح جائزٌ، وهو في حكم من لم يسمِّ لها مهرًا، فلها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة.
          وقال الشافعيُّ: قوله ◙: (الْتَمِس شَيئًا، أَوْ: هَلْ عِنْدَكَ شَيءٌ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ)، يدلُّ أنَّه يجوز أن يكون تعليم القرآن وسورةٍ منه مهرًا؛ لأنَّ تعليم القرآن يصحُّ أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقًا؛ لأنَّه التمس الصَّداق بالإزار وخاتم الحديد ثمَّ بتعليم القرآن.
          قال: ولا فائدة لذكر القرآن في الصَّداق غير ذلك، واحتجَّ عليه(6) الطَّحاويُّ، فقال: قوله ◙: (قَدْ زَوَّجْتُكَها بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ)، خاصٌّ للنَّبِيِّ صلعم لا يجوز لغيره، وذلك أنَّ الله تعالى أباح لرسوله ◙ ملك البضع بغير صداقٍ، ولم يجعل ذلك لأحدٍ غيره؛ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب:50]، فكان له ◙ بما(7) خصَّه الله من ذلك أن يُمَلِّك غيره ما كان له مِلكه بغير صداقٍ، فيكون ذلك خاصًّا له، / كما قال اللَّيث: لا يجوز بعد رسول الله صلعم أن يزوَّج أحدٌ بالقرآن(8)، والدليل على صحَّة ذلك أنَّها قالت لرسول الله: قد وهبت نفسي لك، فقام الرجل، فقال(9): إن لم يكن لك بها حاجةٌ فزوِّجنيها، ولم يذكر في الحديث أنَّ رسول الله صلعم شاورها في نفسها، ولا أنَّها قالت: زوِّجني منه، فدلَّ أنَّه ◙ كان له أن يهبها بالهبة التي جاز له نكاحها.
          فإن قيل: قد يحتمل أن يكون في الحديث سؤال من النبيِّ صلعم لها أن يزوِّجها منه، ولم ينقل في الحديث.
          قيل: وكذلك يحتمل أيضًا(10) أن يكون النبيُّ صلعم جعل لها مهرًا غير السُّوَر، ولم ينقل في الحديث، وليس أحد التأويلين أولى من صاحبه، ويحتمل وجهًا آخر أن يكون النبيُّ صلعم زوَّجها بما معه من القرآن لحرمته، وعلى وجه التعظيم للقرآن وأهله، لا على أنَّه مهرٌ، بدليل ما روي في الحديث من قوله ◙: ((أتقرؤهنَّ عن ظهر قلبٍ؟)) قال: نعم، قال: ((قد زوَّجتكها))، فراعى فيه حرمة القرآن، كما زوَّج النبيَّ صلعم أبا طلحة أمَّ سُلَيمٍ على إسلامه، ولم يكن إسلامه مهرًا لها(11) في الحقيقة، وإنَّما معنى تزويجها على إسلامه، أي أنَّه تزوَّجها لإسلامه.
          قال غيره: ويحتمل أن يريد بقوله: (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) تعجيل شيءٍ يقدِّمه من الصداق، وإن كان قليلًا كقوله: ((بعها ولو بضفيرٍ))، والدليل على أنَّه أراد تعجيل شيءٍ من الصداق أنَّه كان يجوز أن يزوِّجه على مهرٍ يكون في ذمَّته، وكان من عادتهم أن يقدِّموا شيئًا من الصَّداق؛ لأنَّه لم تجر عادتهم في وقته ◙ في المهور إلَّا بالشَّيء الثقيل، وإذا احتمل هذا كلُّه لم يجز أن يجعل أصلًا في جواز(12) استباحة الفروج بالشيء الحقير الذي لا يعدمه أحدٌ ولا بمهرٍ مجهولٍ.
          قال الطَّحاويُّ: والدليل على أنَّه لم يتزوَّجها على أن يعلِّمها السورة عوضًا من بُضعِها أنَّا رأينا النكاح إذا وقع على مهرٍ مجهولٍ لم يثبت المهر، ورُدَّ حكم المرأة إلى حكم من لم يُسمَّ لها مهرٌ، واحتيج أن يكون المهر(13) معلومًا كما تكون الأثمان في البيِّاعات معلومةً، وكما تكون الأجرة في الإجارات معلومةً، وكان الأصل المجتمع عليه لو أنَّ رجلًا استأجر رجلًا على أن يعلِّمه سورةً من القرآن سمَّاها بدرهمٍ أنَّ ذلك لا يجوز، وكذلك لو(14) استأجره على أن يعلِّمه شعرًا بعينه بدرهم لم يجز؛ لأنَّ الإجارات لا تجوز إلَّا على أحد معنيين، إمَّا على عملٍ بعينه مثل غسل ثوبٍ بعينه أو خياطته، وإمَّا على وقتٍ معلومٍ، لابدَّ أن يكون الوقت معلومًا كما يكون العمل معلومًا، وكان إذا استأجره على تعليم سورةٍ فتلك إجارةٌ لا على وقتٍ معلومٍ ولا على عملٍ معلومٍ، وإنما استأجره على أن يعلِّمه، وقد يتعلَّم بقليل التَّعليم وبكثيره(15)، وفي قليل الأوقات وكثيرها، وكذلك لو باعه داره على أن يعلِّمه سورةً من القرآن لم يجز للمعاني التي ذكرتها(16) في الإجارات، وإذا كان التَّعليم لا تُملَك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنَّظر ألَّا تُملَك به الأبضاع، والله الموفق.


[1] في (ص): ((من شيء)).
[2] في (ص): ((قال هل معك)).
[3] في (ص): ((فقال)).
[4] زاد في (ص): ((له)).
[5] في (ص): ((جائزة)).
[6] في (ز): ((على)) والمثبت من (ص).
[7] في (ص): ((مما)).
[8] في (ص): ((لا يجوز لأحد بعد النبي أن يتزوج بالقرآن)).
[9] قوله: ((أنها قالت لرسول الله: قد وهبت نفسي لك، فقام الرجل، فقال)) زيادة من (ص).
[10] قوله: ((أيضًا)) ليس في (ص).
[11] قوله: ((لها)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((كله لم يجعل أصلًا في استباحة)).
[13] في (ص): ((فاحتيج المهر أن يكون)).
[14] في (ص): ((إذا)).
[15] في (ص): ((وكثيره)).
[16] في (ص): ((ذكرناها)).